من الناس من ترسخ صورتهم في الذاكرة من الوهلة الأولى، وتستوطن
محبتهم شغاف القلوب ،وأحداق العيون ، بل وتسري مودتهم في
خلجات النفوس، وفي أعماق الأفئدة،
وبالذات أرباب الطاعة، وأصحاب
العبادة وأهل القرآن ، الذين لا
يستعذبون الحياةإلا في كنف محكماته البينات المبهرات
وبين معجز آياته الجليات.
ومن نعم الله الجلى، التي أفاء بها علي، وأنا أدرج في سن السابعة من
عمري في قرية ( الحقو) قبل أن تمتد
إليها يد النماء، وتصبح مدينة من أجمل المدن العصرية ، وتحديدا في
عام(١٣٨٢ه) أن حظيت بمعرفة عالم جليل، وعابد فضيل، وإنسان نبيل،
حيث كلفتني والدتي يحفظها الله في حاجة لها لدى إحدى
صديقاتها في بيت سبق وأن سكنا
فيه، وكان عادة الأطفال أن يدخلوا
دون استئذان، بل كانت عادة معظم الناس في ذلك الزمن( أي قبل ستين
عاما) أنهم لايجدون حرجا في استقبال زائريهم وقاصديهم في أي
وقت، ولم تكن ثمة أبواب موصدة
أو حراس يحولون دون الدخول إلى
المنازل، وبالذات الأطفال، لاسيما وأن
مصراع كل دار-ودون استثناء- من
التراب إلى السحاب.
وقبل أن أدلف من باب الدار الذي
قصدته إنفاذا لأمر الوالدة..سرى
إلى نفسي قبل أن يلامس أذناي
( صوت وقور انداح في أعماق نفسي) كنسمات الهواء العليل في
الصباحات الربيعية، لشخص لم
أره بعد، ولكن ترتيله للقرآن وطريقة
تحبيره لمبهر آياته، وبأسلوب فطري طبيعي غير متكلف،إضافة إلى دافع الفضول الطفولي- كل ذلك- جذبني
وبشكل كبير ،في أن أحث الخطى
لأرى من صاحب الصوت الهادئ الوقور، الذي غمرني لحد الاغتباط
فإذا أنا بشيخ قد علاه الشيب واعتلته
السكينة وظللته الرحمة، وهو جالس
على سجادة نسجت من أوراق شجر
الدوم( الخصف) وهو مستقبل القبلة
وإلى جانبه مطهرته( إبريق وضوئه)
وفي يمينه مسواك يجول به في
فمه بين لحظة وأخرى، وكان الوقت
ضحى ، ولعل صاحبنا ربما يكون فرغ
للتو من صلاة الضحى وهي (صلاة الأوابين،)ومن هول المشهد الإيماني المهيب،تسمرت تماما في
مكاني، وأخذت استدعي وعلى عجل
من الذاكرة ، مايمكن أن يماثل هذا
المشهد المفعم بالروحانية ، والمضمخ
بالرزانة، والمكلل بالرشادة، لاسيما وأن
والدي يرحمه الله قاضيا، وكان كثيرا
ما يتحدث في مجالسه ودروسه عن
سير الصحابة وعشقهم وتعلقهم بالقرآن.. فخيل إلي -ودون أدنى شك-
وبحكم خصوبة وفطرية خيالي الطفولي الرحب، أنني أمام صحابي
قرآني، وذلك نظرا لما يحمله المشهد
المذهل بالنسبة لي من صور إيمانية
مكثفة من نواح عدة ومنها:
* شيخ كبير في السن، يكسو جسمه
بياض الملابس، ويعلوه بياض الشيب.
* في مصلاه البيتي ، وعلى سجادته
الخصفية وهو مستقبل القبلة، وتلك بساطة الزهاد، وروحانية العباد.
*،صوت قرآني راشد ، حتى خيل إلي
من شجو ترتيلة ، أنني ارتحلت في الماضي الغابر ، وأني في طيبة الطييبة بين يدي صحابي للقرآن مسامر .
* نور باهر يتغشى ذلك الشيخ الوقور
وكأنما بدر دري يسطع نور ضوئه من محياه المشرق، ووجهه البشوش.
* ثغر باسم، يكاد نصوع ابتسامته ينير الرحب الفسيح ، وماتزال إشراقتها تنبلج في نفسي أنسا
وسرورا وحبورا، وعلى هيئة إشراق
إيماني مستدام.
وما إن فطن لي الشيخ حتى ضاعف من ابتسامته، وأفاء علي من بشاشته
ورحب بي ألطف ترحيب، ودعاني
باسمي ، وضمني بحنان الأبوة الفياض
بين ذراعية، وأجلسني أمامه، ودعا لي
بقطعة من الحلوى البلدية البيضاء
المحببة جدا إلى نفسي، ثم طلب مني
أن أسمعه شيئا من محفوظي من القرآن ، وكان يحرك رأسه تفاعلا مع
تلاوتي وتحفيزا لي ، وربت على كتفي ، وحثني على ملازمة القرآن
ومداومة تلاوته.
ولم يدر في خلدي، أن المقادير الآلهية
ستوطد وبعد طول انقطاع صلتي بهذه الشخص القرآني العابد الزاهد
ولكن يأبى الله إلا أن يكون لي معه
وله أيضا معي محطات إيمانية تخلب
الألباب، وتبهر الأبصار، وتلفت الأنظار،
والتي يمكن أن أجملها في المحاور
التالية:
* التزاوار في الله:
اشتهر عن الشيخ أحمد بن عبدالرحمن
العقيلي، على أنه من الأخيار النوادر
الذين كانوا يستعذبون عناء السفر مهما بعدت الشقة وأياكان حجم وعثاء الارتحال ، وذلك ابتغاء ما عند
الله من الأجر والمثوبة، في إضفاء
السرور على من يزورهم، حتى أنه ليمكث الآيام الطوال حرصا منه على
مضاعفة الإيناس والبهجة والمتعة
على الآخرين، وكان يشترط وجوبا
عدم التكلف، إلى حد أن من يزورهم
يتمنون أنه لايبارح ديارهم أبد
الدهر، وذلك لأنه يضفي على المكان
من الأنوار القرآنية والمواعظ الإيمانية
ما يحيل مكان إقامته، إلى روضة
من الرياض النظرة بعبق القرآن ،
لأنه دائم التلاوة للقرآن والوعظ به
والتذكير بمافيه من معجزات وعبر
وقصص وسير، وأذكر جيدا أنه كان
منتظما في زيارة أخلائه في( جده
ومكه، وجازان وأبها ونجران وصبيا
والدرب والشقيق والحقو وبيش وأبها وخميس مشيط وأبوعريش وصامطه
والظبية)وكان الكل يستبشر بزيارته
لأنه مشعل قرآني، ومشكاة إيمانية.
وأنا أحد من كنت استعذب زياراته
وأذهل من حسن إدارته للوقت ومداومته على لزوم الطاعة، وبالذات
قيامه الليل لساعات طوال، وهو يبدد
دياجير عتمته، بأنوار القرآن السنية،
وتلاوته الندية.
* تعلقه بالمساجد: إذ درجت له عادة لا يكاد
يتخلى عنها إلا للضرورة القصوى
وهي المكث في المسجد من صلاة
العصر وحتى الفراغ من صلاة العشاء
حتى أن العمود الذي كان يستند عليه
في المسجد المجاور لمقر سكنه في
جده قد ترك فيها أثرا بالغا يشهد
له بأنه من حمائم المساجد الروحانية،
وهذا ديدنه حتى لدى زياراته لأخلائه
وأصدقائه، حتى أن بعضهم اكتسب هذه العادة التعبدية منه، كما وأنه يحرص على الاعتكاف في المساجد
بشكل منتظم ويحث ويحظ على ذلك
* الاعتكاف في الحرمين الشريفين:
كان يدوام على زيارة الحرمين الشريفين بشكل منتظم ويعتكف فيهما ، وبالذات الحرم المكي، إذ
كان يطيل الاعتكاف فيه، وقد كان
لي شرف مرافقته وملازمته، في بعض اعتكافاته ، فشدني كثيرا تجلده
في العباده، وكثرة القيام والصيام ومداومة تلاوته للقرآن، إلى درجة أنه لاينام من الليل والنهار إلا لماما ، ولاياكل من الطعام إلا أقل القليل
مما يقيم الحد الأدنى من الأود
ويسد الرمق، وأذكر حتى أنه في الليالي الشاتية في الحرم المكي يلبس الصوف ويمضي جل الليل
بين قائم وراكع وساجد وتالي للقرآن
العظيم ، دون أن تلحظ عليه العناء
والأعياء، وفي هذا المقام يخبرني
شيخ آل هيجان، الشيخ ابراهيم
أحمد هيجان، بأنه زاره في ليلة
شاتية شديدة البرودة، في مدينة خميس مشيط ، فراعه وأذهله، أنه
شاهده وهو يصلي قيام الليل وقد
قام بتشغيل المروحة، حتى يزيد
من برودة الجو ، لكي لا يدع للنوم
سبيلا أن يتسلل إلى عينيه، ويحول
بينه وبين لذة ومتعة قيام الليل.
* زهده وتعففه: طلق الدنيا الدنيا بمافيها من زخرف ومفاتن ومغريات ، كما وزهد فيما
عند الناس، فهو بالرغم من أنه جالد
وجاهد وكافح على تربية أبنائه ذكورا
وإناثا، وأترع أفئدتهم من موائد القرآن
الزكية الندية، وأثمرت تربيته فيهم
جميعا صلاحا وفلاحا ورشادا، حتى
شقوا طريقهم في الحياة بكل كفاءة
ومهارة ونجاح… وبالرغم من كل ذلك
وإحسانه لتربيتهم جميعا، إلا أنه آثر
بعد ان أطمأن على استقرار حياتهم
العملية ، وما حباهم الله به من السيرة العبقة، والعيشة الرغيدة، وبعد
أن زوج جميع الذكور والإناث آثر وبكل أريحية وسماحة وحبذ التفرغ
الكامل للعبادة والطاعة وتلاوة القرآن
والاعتكاف في المساجد، وزيارة الحرمين الشريفين، واستدامة زيارة
الأهل والأصدقاء والأخلاء، حتى بات
آية في الطاعة، وغاية في الزهد، ومنارة في الحكمة ورجاحة العقل
المكلل بالموعظة الحسنة.
* الحفاظ على التماسك الأسري:
كثيرا ما كان يردد ، أن من نعم الله
على الإنسان، بعد نعمة الإيمان ، أن
يمنحه الله العمر المديد حتى يرى
أولاده ومايتفرغ منهم امام ناظريه
وهم يرفلون في رياض القرآن وبين
خمائل النعماء، ولذا حرص غاية الحرص على تمتين النسيج الأسري
والحفاظ على كينونة الأسرة الممتدة
وأعانه أبناؤه البررة على ذلك، وحرصوا على إبهاجه وإيناسه بتحقيق رغبته الأبوية، فعاشوا في
كنفه، ومن حوله، وكان كثير الدعاء
لهم بالصلاح والفلاح، فاستجاب الله
دعاءه ، وحقق له مراده، وقد تنامت
أسرته في حياته، حتى أنه لم يمت
يرحمه الله، إلا وقد تجاوز عدد من تفرع من صلبه عن المائة من الذكور
والإناث ، ومن ارباب الصلاح والفلاح.
ومن باب الإنصاف، أن هذا ليس كل
مايمكن قوله عن الشيخ أحمدبن عبدالرحمن العقيلي، فهو أيضا ممن
اشتهر بالكرم والسخاء، حتى أن بيتهم
لا يكاد يخلو من الأضياف من الأقارب
والأباعد، وهو صاحب وجه بالبشر مشرق، وبالنبل يعبق، وبالسرور يغدق
إلى حد أن زائريه لا يسأمون من مجالسته، ولا يملون من محادثته
لأنه أشبه بخميلة إيمانية، يحتذي
منها كل من يجالسه نفح الإيمان
وأريج التقوى، ويجد مجالسوه لذة
حلاوة الإيمان الروحانية، وكانت كل مجالسه على الدوام وبلااستثناء
حافلة بالعبر والسير، واستعراض
سيرة سيد البشر، عليه الصلاة والسلام ، وبأسلوب يتسم بالسماحة
والسلاسة والأريحية، حتى شاع ذكره
بين الأنام بصاحب القرآن، وأنه درة إيمانية يزهو بها الزمان، ويزدهر المكان، وتفاخر الأوطان.
ولعل من بين بعض بركاته القرآنية
نجله الأكبر الشيخ على أحمد العقيلي صاحب الحنجرة الشجية، والتلاوة
الندية، والسيرة الإيمانية، والذي كان
إماما لجامع ( المعمار) المجوار لآل
نصيف في جده ، في حي العلوي
في شارع قابل، لأكثر من أربعين عاما
، وهو صاحب تلاوة مؤثرة ونادرة
وله بصمة صوتية قرآنية خاصة به
على غرار كبار القراء ، أمثال الشيخ
عبدالباسط والشيخ الحصري والشيخ
الطبلاوي، وأمثالهم من عمالقة
وجهابذة القراء الكبار، حتى أن الملك خالد يرحمه الله لماتناهت إلى مسامعه يرحمه الله
قراءة الشيخ علي بن أحمد العقلي وتميز تلاوته، استدعاه وكلفه أن يصلي بجلالته، ورغب أن يكون إماما
ملازما له، ولكن ظروف الشيخ علي
العقيلي ،ومشغولياته الأسرية، ومسؤولياته العائلية المتعاظمة
-لاسيما وهو يعيل أسرة ممتدة وكبيرة-لم تكن تساعده على ذلك.
وصفوة القول فإن الشيخ القرآني
الجليل أحمدبن عبدالرحمن حسن
العقيلي يرحمه الله، كان أشبه بروضة
إيمانية ندية، وخميلة روحانيةزكية،
وواحة قيمية بهية، يعبق منها نور
الإيمان، ويطيب فيها الإرتواء من موائد القرآن، التي تزيح عن النفس
ما ران عليها من وعثاء الحياة
وتذهب عنها ما شابها من رهق المكابدة، في سبل الحياة
الفانية، ومن زخارفها الفانية.
- 21/11/2024 هيئة الأمر بالمعروف بمنطقة عسير تفعّل المصلى المتنقل بواجهة عسير البحرية مع انطلاق شتاء المنطقة
- 21/11/2024 تنظيم ملتقى الخطباء الثاني بمنطقة مكة المكرمة
- 21/11/2024 سلسلة من المناشط الدعوية ضمن البرنامج الدعوي المصاحب لشتاء جازان تنفذها إسلامية جازان في عدة محافظات
- 21/11/2024 الشؤون الإسلامية في جازان ممثلة بمساجد صبيا تقيم مبادرة تطوعية “فرحة يتيم”
- 21/11/2024 إسلامية جازان تُنظم عدة محاضرات دعوية بمحافظات هروب والريث والعارضة
- 21/11/2024 الشؤون الإسلامية بجازان تنظم عشر محاضرات دعوية رجالية ونسائية بمحافظة بيش
- 21/11/2024 الشؤون الإسلامية في جازان تقيم مناشط دعوية في محافظة بيش وتمنح ساعات تطوعية للمشاركين
- 21/11/2024 أمير منطقة نجران يدشّن جمعية مناسبات للثقافة والترفيه بمحافظة شرورة
- 21/11/2024 الدفاع المدني يؤكد أهمية المحافظة على سلامة الأطفال من مصادر الخطر داخل المنازل
- 21/11/2024 محافظ هيئة المواصفات : المواصفات والمقاييس والجودة تُعزز التطور الصناعي والمحتوى المحلي
التقارير > الشيخ أحمدالعقيلي..ورياض القرآن
07/07/2020 5:37 ص
الشيخ أحمدالعقيلي..ورياض القرآن
البيان-د. علي جمال الدين الهيجان-الاعلام والاتصال
البيان-د. علي جمال الدين الهيجان-الاعلام والاتصال
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://www.albayannews.net/101903/