رأى د. عبدالله بن موسى الطاير أنه رغم أن قوة أمريكا الصلبة والناعمة في آن واحد لا مثيل لها، إلا أن حدوث تحولات في القوة الصلبة يؤدي إلى تحولات في القوة الناعمة أيضا، مستشهدا بتراجعها في القوة الناعمة وفقا لمسح مونوكل من المركز الأول ٢٠١٤ م إلى الرابع ٢٠١٨ بعد كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ما يعني أننا أمام تحولات حقيقة في القوة وتوزعها سيؤدي لاحقا إلى تعدد الأقطاب في التأثير على الرأي العام.
جاء ذلك خلال محاضرة “القوى الناعمة بين الاستعلاء الغربي والتواضع الشرقي”، التي نظمها نادي أبها الأدبي، أول من أمس، وأدارها د.علي سعد الموسى، ضمن فعالياته بصيف عسير تحت شعار “مرحبا ألف في عسير”.
وقال د.عبدالله: “شهد عام ٢٠١٨ م تحولات مضطردة في موازين القوة الناعمة، تأخذنا على نحو أسرع إلى عالم متعدد الأقطاب ومترابط في ذات الوقت، لقد أصبحت القوة أكثر انتشارًا، حيث انتقلت ليس فقط من الغرب إلى الشرق، ولكن أيضا بعيدًا عن الحكومات، حيث تلعب المزيد من الجهات الفاعلة غير الحكومية أدوارًا أكبر في دفع الشؤون العالمية، ومن ذلك الاتحاد العالمي لكرة القدم (فيفا)”، مضيفا: “إن التسارع نحو مزيد من الاعتماد المتبادل تحركه القوى المزدوجة للعولمة والثورة الرقمية، لقد عملوا معاً على تقريب العالم من خلال زيادة التدفقات الدولية للتجارة ورأس المال والناس والثقافة والتعليم والمعلومات. وبذلك، أدى الترابط الأكبر إلى خلق تحديات وفرص”.
وأضاف: “القوة الناعمة مهدت لاستعلاء الغرب تتمثل في سيادة النظام العالمي الليبرالي، ولكن هذا النظام يكتنفه التساؤل منذ بداية القرن الواحد والعشرين، رغم أنه ليس في طريقه للانهيار بالكامل، إلا أنه “يتلاشى بمعدل متسارع”، معتبرا أن هذا التدهور استوقف المحللين والباحثين والمعلقين، وبدأ النقاش حول عدم حصانة النظام العالمي ضد الوهن، وبحلول أوائل عام 2010، “بدأ ظهور مجموعة كبيرة من العمل الأكاديمي، محذرة من زوال النظام العالمي في نهاية المطاف. لا يقتصر هذا الفكر المثير للقلق على مستوى التفكير فحسب، بل هناك أيضًا مستوى مذهل من التنوع في الحجج التي تم طرحها حول التهديدات للنظام العالمي”.
وتابع: “يسجل الباحثون ثلاثة مهددات أساسية للنظام العالمي الليبرالي وهي: موجة من القومية الشعوبية في الغرب (العزلة وعدم ربط الرخاء بالعولمة)، سياسة خارجية أمريكية مغايرة جذريًا للمتعارف عليه (أمريكا أولا أدى إلى تقويض العلاقة مع حلفاء أمريكا وبخاصة الناتو، وجعل المنظور ضيقا للمصلح العالمية التي يقودها القطب الأمريكي الأوحد، حيث تم إلغاء معاهدة التجارة عبر الأطلسي TPP، الانسحاب من معاهدة باريس للتغير المناخي، الانسحاب من الاتفاقية النووية بين الغرب وإيران)، وأيضا قوى صاعدة تتحدى الوضع الراهن، حيث تتحول السلطة من الغرب إلى الشرق أي من عالم أحادي القطب إلى متعدد الأقطاب، أي أن الولايات المتحدة تنتقل من موقع هيمنة عالمية، إلى واحدة من القيادة المشتركة للهيمنة، ويكمن التهديد المحتمل للنظام الدولي الليبرالي في كيفية استخدام القوى الناشئة، وأبرزها الصين، لنفوذها الجديد. بالإضافة إلى العودة إلى الجغرافيا السياسية المجزأة والفوضوية، حيث يؤدي عدم وجود هيمنة أمريكية عالمية إلى انهيار النظام العالمي”.
القوة الصلبة
وفيما يخص مخزون القوة الصلبة في عالم اليوم، قال: إن الولايات المتحدة الأمريكية تقبع في المركز الأول عالميا في القوة الصلبة أو العسكرية ٢٠١٩ م، تليها روسيا، ثم الصين، وإذا كان الاقتصاد يعتبر بمثابة الجزرة في القوة الصلبة، بل يكون أحيانا أمضى من الأسلحة الفتاكة، فإن الإطلالات على القوة الصلبة بعصاها وجزرتها تعطي أمريكا تفوقا كميا ونوعيا، ليس بما تملكه من موارد وإنما بقدرها على توظيف موارد الآخرين لصالح اقتصادها، إذ أنها محاطة من الشمال والجنوب بكندا والمكسيك وهما حليفان تقليديان وترتبط مصالحهما ترابطا عضويا معها، وفيما وراء المحيط أو قبل المحيط هناك أوربا التي تتشارك القيم والمصالح معها أيضا مع بعض الخلافات غير الجوهرية.
أما الأمر بالنسبة للصين مختلف تماما، فهي بلد صناعي ينتج بغزارة، ولكن أسواقه بيد أعدائه في أمريكا وأوروبا، بل وحتى احتياطاته النقدية لم تجد من يستوعبها لضخامتها سوى أمريكا، وفي المحيط الجغرافي تحيط بها كوريا الجنوبية واليابان، وهما تسبحان بحمد أمريكا، وتحتميان بقوتها من التنين الصيني.
وأضاف: إذا استطعت أن تستنبت من القوة الصلبة مشاعر، وقيم، وأخلاق، وثقافة قابلة للتداول فقد أوجدت لك قوة ناعمة رديفة لقوتك الصلبة، بحيث “تجعل الآخرين يريدون ما تريده” بدون إرغامهم على ذلك. قوتك الصلبة في بعض الحالات قد لا تكون كافية لحسم الحرب لصالحك، ولدينا بالنسبة لأمريكا أمثلة واضحة في فيتنام، وأفغانستان، والعراق حيث لم تتمكن القوة العسكرية وحدها حسم المعارك التي بدأتها أمريكا. ولكن في الوقت ذاته فإن أمريكا فتحت تلك البلدان لثقافتها وقيمها وشعاراتها في الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، وتركز على العمليات دون اكتراث بالنتائج، أو لنكن أكثر دقة في غير تعجل للنتائج؛ يمكن لنا توصيف العلاقة بين أمريكا والعالم بأنها خوف وحب في آ ن واحد. وحتى يبرر الأتباع هذه العلاقة المزدوجة فإنهم يفرقون بين سياسة أمريكا وبين قيمها. فهم يحبون قوتها الناعمة ويكرهون قوتها الصلبة .
وفي عصر المعلومات العالمي الحالي، لا يعتمد النصر في الغالب على من ينتصر جيشه، بل على من تنتصر روايته.” كما قال جون أركويلا، وهو ما يعبر بوضوح عن فائدة القوة الناعمة وأهمية التواصل الفعال لوضع روايتك كدولة أو أمة في مقدمة القصص التي توجه الرأي العام.
ونوه بأن التوقع أن تكون الصين أقوى اقتصاد بحلول عام ٢٠٢٧، من عام ٢٠١٠، على اعتبار حساب النمو الخطي، ولكن هناك مطبات في طريق ذلك منها الرئيس ترمب الذي غير مفاهيم التجارة العالمية وبدأ حربا باردة مع الصين، وأن هناك عاملا خطيرا ضد أمريكا، القوة التي لا تقهر، وهو أن تعاظم القوة قد يؤدي إلى انفجارها، مضيفا: “الخوف من آسيا ومن الصين تحديدا قد يؤدي إلى كارثة في الغرب إذا اتخذوا سياسيات خاطئة منشأها الخوف، وهناك حديث عن حرب أمريكية مع الصين بحلول عام 2025م”.
وذكر نماذج من القوة الناعمة: الدعوة الإسلامية بدءا بالبعثة وما بعدها، ودخول الإسلام دول شرق آسيا وغيرها بدون حرب (القدوة)، البعثات الدراسية، ٢٨ % منها في أمريكا، و١٤ % في بريطانيا، منهج فرنسا مع مستعمراتها في نشر لغتها وفنونها وآدابها، الحرية والديمقراطية من قبل أمريكا والغرب في مواجهة الفاشية،الرأسمالية في مواجهة الشيوعية، الثقافة وأسلوب الحياة الأمثل للعالم، فأمريكا والغرب الديمقراطي يزعم ذلك، ويرون بوجوب فرضه بالقوة الصلبة.
مكانة المملكة
وعرج إلى وضع المملكة، قائلا إن اجتماع ٥٦ دولة إسلامية في قمم مكة واتفاقهم مع موقف المملكة العربية السعودية مع كثير من قضاياها دليل راسخ على ما تحظى بالمكانة الإقليمية والدولية القوية، مستبشرا بتنامي القوى الناعمة كبرامج الابتعاث ومشاركات الفن والتراث المحلي عالميا، فضلا عن حسم الخيارات المستقبلية، مشددا على أهمية مقولة الأمير خالد الفيصل بتحديد من نحن؟ وماذا نريد؟.