عندما تتحول القرية في حياة الكاتب من موطن طفولة إلى حلم و حاجة يبحث عنها في جميع أرياف الأرض , يعاود إحياء الذكرى بالكلمات , ويجسد اللحظة بمشهد ويكتب البيئة في سيرته الذاتية , عمرو العامري الذي خرج من قريته طالباً , عائداً إليها برتبة ملازم بحري. صدرت له أربع مجموعات قصصية الأولى من نادي جازان الأدبي , وبعد تقاعده أصدر سيرته الذاتيه بعنوان – ليس للأدميرال من يكاتبه مذكرات ضابط سعودي- ثم أتبعها بنصوص مزاد على الذكرى و أصدرت له روايتان , من أساطير القرى و الثانية جنوب جدة شرق الموسم وقريباً روايته الثالثة : بيت أمي . - حدثني عن عمرو العامري ؟ من الصعوبة أن يتحدث الإنسان عن نفسه إلا إذا كان مسكونا بهاجس الذات الأنا أو النرجسية و أحاول ألا أكون كذلك. الحديث عني هي مساحة الآخرين وهم من يتحدث ، لكن وقد ” أردت إجابة على سؤالك ” فسأقول عن عمرو العامري أنه الطفل الذي غادر القرية ذات يوم بعيد جدا ، طاف العالم رأى المدن والبحار والناس لكن كل ذلك لم يعن له شيئا وعاد إلى القرية مثقلا بالسنوات والذكريات والحنين وضياع الأمكنة وربما التجربة ثم ما من شيء .
– هل وجد الأدميرال من يكاتبه ؟
عندما استعرت هذا العنوان من الكاتب الكولومبي جبرائيل ماركيز (ليس للجنرال من يكاتبه) لم أكن أعرف أيضا أني أستعير نبوءته، فبطل الرواية ظل يراجع مكتب البريد خمسة عشر عاما في انتظار معاشه التقاعدي دلالة على نفعية المجتمع الذي لا يولي المتقاعدين الكثير من القيمة. الحال لا يختلف كثيرا هنا وحيث ينزوي المتقاعدون في صمت بعد خذلان المجتمع – النفعي – لهم لأنه لم يعد لديهم ما يقدمونه . مختصر القول أنه ما من أحد يكاتب المتقاعد، جنرالا، ادميرالاً او حتى وزيرا غادر المنصب. الناس أوفياء فقط للمنفعة , لكني مصر على الكتابة حتى وإن لم يكاتبني أحد لأنها وحدها من يوصلني الى الآخرين ويقودني ( بسلام ) نحو مخرج الطوارئ .
- عمرو العامري هل سيختار مجدداً إغضاب الأقارب من أجل كتابة مذكراته ؟
أظن أن السؤال لا يحتمل غير إجابتين : نعم أو لا وحتما سأفعل لو أعددت التجربة ، تجربة حماقة كتابة مذكراتي حتى لو غضب الأقارب .
- كل من يقرأ نصوصك وعبر امتدادها تحضر ثيمة الحزن في كل لحظة ، معبرا عنه من خلال المكان ، الليالي والمشاعر و الخذلان والوحدة والفراق ، فلماذا عمرو العامري جعل من الحزن شماعة يسقط عليها جميع رؤاه ؟
هذا سؤال جيد رغم أن فيه رائحة إتهام واسمحي لي أن ابتدئ الإجابة من جزئه الأخير : لماذا جعلت الحزن شماعة اسقط عليه رؤاي في الحياة؟ الحزن محصلة وليس عطية ، لا أحد يولد حزينا ولا أحد يحب أن يكون حزينا أيضا , لكن الحياة قد تجعلك كذلك وأنا من الذين خذلتهم الحياة بالمطلق والمكان هنا ليس للشكوى والتبرير ثم ولن أنكر أنه لي أنا دور أيضا في هذا الخذلان . من تسلبه الحياة أمه طفلا ثم أبيه وينخلع عن إخوته في سنوات الطفولة ويفقد الأرض التي يقف عليها واللغة التي يسكن فيها ثم تتوالي خيبات سوء التقدير وسوء الحظ وشح هبات الحياة لن يرث سوى الحزن. لكني أحاول ولا أعرف إن كنت نجحت أن يظل هذا الشجن داخليا يسكن حرفي ويقيم بين سطوري ويمنحني الحصانة دون وعود الحياة الغير مؤكدة ، أحاول أن يظل حزني أبيضاً لا يكسرني ولا يعزلني عن الناس ولا يأخذني لحدود النقمة..
– ذكرت في كتابك ” ليس للأدميرال من يكاتبه ” : أن إحدى نقاط ضعفك الكثيرة هو أنك تصنع ألفة مع المكان ، فهل الأمكنة التي زرتها مؤخراً ساعدت في خفت الحنين إلى القمري كما فعلت جدة؟
سكنتني القمري او القرية بالمجمل وحمتني من السقوط في فخ الافتتان بالمدن والأضواء ووعود المطارات الغير مؤكده , وبعد سنوات وسنوات وجدت في جدة البديل الموازي لأضع عصى الترحال وأنفض عن كتفي ملح الزرقة , لكن جدة (المدينة والإنسان) تغيرت وهذا موضوع آخر, جدة التي عرفتها قبل ثلاثين عاما لم تعد هي وهي الآن مدينة طاحنة توسعت جدا تباعدت اطرافها وأدارت ظهرها للبحر ونشيد الصيادين وعبور النوارس المهاجرة والحارات التي كانت مسكونة بالإنسان ، جدة الآن مدن عدة داخل مدينة و كل من فيها يركض وسط الزحام والإسمنت والعمارات النابتة نحو السماء, ولهذا عدت للهروب نحو بلاد آخري، ملاحقة المدن التي ما زالت تحتفي بالإنسان البسيط. - ماذا تعني القرية بالنسبة لك ؟ ورغم أن القرى أيضا تغيرت كصبية تلطخت بأصباغ كثيرة وهي تظن أنها تتجمل وتغدو مدنا كذلك تفعل القرى الآن وهي لم تعد قرى بالمطلق وأبدا لن تكون مدنا . غير انها ما زالت اليقين وسط عالم يتبدل سريعا وما زلت اجد فيها من يناديني بإسمي واجد فيها الكبير الذي أقبل رأسه والصغير الذي يقبل رأسي أيضا وبها قبر أمي وأبي وهذا يكفي لأشعر باليقين.
-هل مازال السلاح أفضل وأجمل صديق بالنسبة لعمرو العامري ؟
إن أجمل الصداقات هي صداقات وزمالة السلاح لأنها صداقة معمدة بالدم وتقاسم فرصة الحياة والموت والافتداء ,صداقة السلاح وزمالة رفاق السلاح هو ما فقدته بعد أن غادرت البدلة.
– كتابكَ المنتظرمتى يحين موعد اخراجه من تحت عباءتك وهل سيكون هذاالعمل بعيداًومختلفاًعن بقية الأعمال السابقة لك كروائي أم أنكَ انتهجت نهجك الذي عودت عليه قرَّاءك في الأفكار ؟
هذه أسئلة عدة في سؤال واحد على ما أظن , عموما لدي عدة مشاريع كتابية آخرها رواية انتهيت منها ودفعت بها نحو أحد دور النشر واسميتها ( بيت أمي) وأتمنى أن تصدر قريبا ,
هل ستكون مختلفة ؟
لا أعرف , القارئ من يقول ذلك وهي تختلف في موضوعها عن روايتي السابقتين ( تذاكر العودة) و ( جنوب جدة شرق الموسّم) ولكنها لا تختلف من حيث اللغة، أنا من الذين ينحازون نحو اللغة وشاعريتها والتي قد يرى فيها البعض من النقاد ضعفا، لكني آخر من يهتم لما يقوله النقاد وأكتب للكتابة فقط وحتى لا تتعفن داخلي الكلمات ولست مسكونا بهاجس الرسالات وإصلاح الكون ولا انتظر الإطراء , أكتب لأجعل عالمي أوسع قليلا أكتب لأني لا أجيد الغناء ولهذا اصرخ في وجه العالم بالكتابة.