كل شاب يطمح في الاستقرار ، وتكوين أسرة ؛ ليحظى بما حظي به من سبقه عمراً من إخوته ، وأقاربه ؛ ويعد العدة لذلك ، فيسعى حثيثاً في البحث عن الوظيفة المناسبة ، يخوض غمار البحر ، يقطع الفيافي ، يعانق السحاب ، يرتقي العقاب ، يتخطى الأنفاق ، يعبر الأودية ، والسهول ، يقترض من أقربائه ، بعد نفاد صيغة أمه وأخواته .
و حين يحصل على الوظيفة؛ يعج البيت كله بالفرح ، إنها مناسبة سعيدة، كتبها القلم ، ودونها التاريخ بمداد من ذهب ، رواية عنوانها " رحلة الألف ميل " .
من هنا تبدأ رحلة الألف ميل، الوظيفة في أدنى الأرض ،بعيدة عن مقر السكن ، يتعذر الدوام من المنزل ، وهذا النفق الأول من المعاناة ، تليه أنفاق كثيرة ، الحاجة الملحة لوسيلة مواصلات ؛ للتنقل من وإلى مقر العمل، وللعودة في نهاية الأسبوع إلى أهله وذويه، استئجار غرفة ، أو شقة مفروشة قريبة من مقر العمل ، مصاريف ، أكل ، شرب ، غسيل ملابس ، وقود سيارة ، فرقات ، استراحات ، وطلعات ، قُضِيَ على أكثر من ثلثي راتبه قبل قبضه .
وإذا سئل متى الزواج ؟ يقول : بدري باقي ماكونت نفسي ، ويمر عام تلو عام وسنة بعد أخرى ، حتى يلامس عمر الأربعين ربيعاً ، وهو ما يزال يكرر العبارة نفسها ، لم يتقدم و لم يتأخر، لا هو في القمة، ولا في القاع ، معلق في الهواء ، مكث أزماناً عدة يصنع قاربه " أكَوِّن نفسي " ، وأخيراً أصبح جاهزاً ؛ للنزول في بحر الحياة، لكن للأسف ، سُمِعَ يصرخ بأعلى صوته وهو يردد " لما انتهيت من بناء قاربي جف البحر "
"لما انتهيت من بناء قاربي جف البحر "
نعم جف البحر .
هذا المصير ، وتلك النهاية ، عندما تكون المبالغة في تكوين النفس قد زادت عن حدها، وبلغت منتهاها .
وصدق الشاعر، حين قال:
إذا هبت رياحُك فاغتنمها
فعقبى كل خافقةٍ سكونُ