أم فضيلة الشيخ الدكتور ماهر بن حمد المعيقلي المصلين اليوم الجمعة التاسع من شهر محرم الحالي في المسجد الحرام
وأستهل فضيلته خطبته الأولى بعد أن حمد الله وصلى على النبي فقال: خلق الله تعالى عباده حنفاء،﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، فأغوتهم الشياطين، فأرسل سبحانه رسله، مبشرين ومنذرين، ومذكرين بأيام الله، وعهده وميثاقه، وَأَيَّامُ اللَّـهِ تَعَالَى، هي الأيام التي أنعم فيها على أقوام، وانتقم فيها من آخرين، ليشكر العباد نعمه، وليحذروا عقابه، قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( بَيْنَمَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِهِ، يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ، وَأَيَّامُ اللهِ، نَعْمَاؤُهُ وَبَلَاؤُهُ))، رواه مسلم.
وفي القرآن العظيم، قال هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لقومه: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّـهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾، وَلما بُعِثَ نبي الله صالح عليْه السَّلامُ، ذكر قومه بأيام الله فقال: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّـهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ وكل نبي يبعثه الله تعالى، ينذر قومه ويبشرهم، ويذكرهم بأيام الله، يذكِّرهم بأيام الله التي مضت، بما فيها من العبر والعظات، يذكِّرهم بأيام الله، ماذا فعلت بقوم نوح وعاد وثمود، وأصحاب مدين والمؤتفكات، يذكرهم بأيام الله، في الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وأحلوا قومهم دار البوار.
وأتم فضيلته الخطبة فقال:
إن من مقتضياتِ تذكُّر نِعَم الله، الاعترافُ بها، ونسبتُها للمتفضِّل جل وعلا، فإن من سوء أدب العبد مع الرب، الانغماس في النعم، ونسيان المنعِم، فإذا أقرَّ المسلمُ بنِعَم الله، شكرها باستعمالها في تحقيق مرضاته، قال كليم الله موسى عليه السلام: ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾، وإذا رأيتَ الله تعالى، يُعطي العبدَ ما يُحِبّ، والعبد مقيم على معاصي الرب، فاعلم أنَّما ذلك استدراج للعبد، ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾، وذكر الإمام القرطبي في قوله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، أي: “كلما أحدثوا خطيئة، جددنا لهم نعمة، وأنسيناهم الاستغفار”.
وأكد فضيلته معاشر المؤمنين: إن العبد لا يكون شاكرا لله، إلا إذا ظهر أثر شكر النعمة على قلبه، محبةً وشهوداً، وعلى لسانه ثناءً واعترافاً، وعلى جوارحه وأركانه، طاعة وانقياداً، فشكر النعمة يكون بالجنان واللسان، والجوارح والأركان.
وأعظم الشكر؛ المبادَرة إلى العبادة، كما قال سبحانه: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾
وتحدث فضيلته في الخطبة الثانية بعد الحمد والثناء على الله: إن من أيام الله العظيمة، اليوم العاشر من شهر الله المحرم، أنجى الله فيه موسى – عليه السلام – وقومه، وأغرق فرعون وجنده، والله تعالى يحب من عباده، إذا أنعم عليهم بنعمة أن يشكروه عليها، فصامه موسى شكرا لله، ولما قدم النبي- صلى الله عليه وسلم – المدينة، رأى اليهود يصومون يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟))، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ))، فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، رواه مسلم.
فيستحب صيام يوم عاشوراء، طلبا لعظيم موعود الله جل وعلا، الذي أعده للصائمين، ففي صحيح مسلم، رغّب – صلى الله عليه وسلم- في صيامه فقال: ((صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ))، والسنة في صيام عاشوراء، صيام اليوم التاسع مع العاشر، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ، لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ))، رواه مسلم.
وأكمل فضيلته الخطبة الثانية فقال: إن يوم عاشوراء، يوم اجتماع الكلمة، وتوحيد الصف، ويوم المحبة والمودة لأهل الإيمان، ولو اختلفت أنسابهم ولغاتهم، بل ولو اختلفت الأزمنة والأمكنة، فبصيام عاشوراء، يتذكر المسلم، ذلك الحدث التاريخي العظيم، يوم فلق الله البحر لموسى – عليه السلام- وأتباعه، والأنبياء بعضهم أولى ببعض، فربهم واحد، وأصل دينهم واحد، ويدعون إلى عبادة إله واحد، ففي صحيح البخاري، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ))، وأمة محمد – -صلى الله عليه وسلم- أولى الأمم بأنبياء الله تعالى، من أقوامهم الذين كفروا بهم وكذبوهم، فخاتم الرسل محمد – صلى الله عليه وسلم – وأمته يشهدون يوم القيامة، بأن الأنبياء قد بلّغوا الرسالة، وأدّوا الأمانة، ففي صحيح البخاري، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى، هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ لاَ مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ، فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾، وَالوَسَطُ العَدْلُ)).إن يوم عاشوراء، يوم الرحمة والمغفرة، وإظهار كرم الله جل جلاله، فهو يتفضل بالعطاء الجليل، على العمل القليل، فتكفير سنة كاملة، يكون بصيام يوم واحد
.