تعشق أباها عشقاً كبيراً، وتهتم به.. وتراه الرجل الأنموذج الذي تبحث عنه.. وعت على الدنيا وهي لا ترى إلا طيبته وحنانه ودفء مشاعره وقربه منها.. كان يناجيها وهي طفلة صغيرة.. تشعر به وبروعته.. وأبوته حتى وهي لا تزال في الثالثة من عمرها. وكانت حبيبة أبيها.. وكانت لصيقة به حتى أصبح ذلك مصدر غيرة بقية العائلة.. بدأت سنتها السادسة في حضنه وبين يديه..
يكثر من اللعب معها ومن "تدليعها" ومن مرافقتها له في زياراته ومشاويره لشراء حاجات المنزل.. كان يحملها بين ذراعيه، ويرمي بها في الهواء ثم يلتقطها وضحكة من القلب تصدر منها، ثم يضمها إلى صدره، وتشعر بدفء حنانه.. وصدق مشاعره.. وهذا أدى إلى زيادة التصاقه بها والتصاقها به.. عندما تعود من المدرسة يساعدها في حل واجباتها، ويعلمها اللغة العربية والكتابة والقراءة واللغة الإنجليزية، وهو ما يفعله مع بقية ذريته، لكنه يخصها بمزيد من الاهتمام.. حتى إذا مرضت وهي صغيرة كانت ترى دموعه وسهره وتعبه عليها.. يجلس بجانبها ويسهر على راحتها، وكانت دموع الرجل صعبة وهو يحاول أن يخفيها.. نمت وكبرت وترعرعت وأصبحت شابة جميلة مثيرة للاهتمام ومحل إعجاب من يراها، وكان لا يعنيها إلا والدها.. تزداد حباً له، ولا تطيق فراقه.. وهو يزداد تعلقاً بها. لمس وعيها وذكاءها، وأصبح يعتمد عليها ويشاورها في كثير من أموره؛ فيجد منها الرأي الراجح رغم صغر سنها. كان يوم زواجها يوم مشاعر متناقضة.. فرح وحزن، وألم وسعادة، وحسرة ومتعة، وظلت هذه العلاقة الأبوية الصافية مستمرة بين الأب وابنته. شخصية أبيها وحنانه وطيبته لم يعوضها أحد، وأصبحت تراه في خيالها وحياتها رغم بُعد المسافات. ومرت الأيام، ومرض الأب مرضاً تطلب بقاءه في المستشفى؛ التصقت به، وسهرت على راحته، وبقيت بجانبه ليلاً ونهاراً، لا تفارقه لحظة، حتى أصبحت مضرب المثل في الوفاء، كيف وهو والدها الحبيب، وهي التي لمست حبه لها وسهره على راحتها. قرر الأطباء إجراء عملية في القلب.. رفضت.. بكت.. أصرت.. على أن يسافر إلى الخارج.. وكان رأيه مختلفاً؛ فوقَّع على إجراء العملية دون علمها، وقدر الله وما شاء فعل، وفاضت روح الأب إلى بارئها.. وانتقل إلى رحمة الله.
جُنّ جنونها.. حزنت، وتألمت.. بكت وبكت وبكت.. ورغم الظروف الحياتية الصعبة التي مرت بها إلا أن ألم فراق أبيها كان صعباً جدًّا ومؤلماً جدًّا ومحزناً جدًّا. ظلت الليالي بعده حزينة كئيبة، لا يفارقها خياله.. تحتضن صورته، تحملها في كل وقت، تبكي لساعات، وفشلت في الخروج من هذه الأزمة.. مر شهر وشهران وثلاثة وسنة وهي لا تزال مع أبيها، كأنه موجود، حتى خاف عليها المقربون منها من أن تصاب بهستيريا؛ بسبب هذا الحب الكبير لوالدها الذي انتقل إلى رحمة الله.
جلست بجانب شخص مقرب إليها شعر بطيبتها وبعاطفتها، وارتاحت إليه، ولكن حقيقة والدها لا تزال في مخيلتها. بدأت تستعرض أسماء موجودة في جوالها، وفجأة جاء رقم معين كُتب عليه اسم "أغلى الناس"، فسألها عن ذلك، وطلب منها الاتصال على هذا الرقم.. بكت وفاض الدمع من عينيها الجميلتين، وضغطت زر الاتصال، وظهر اسم "أغلى الناس"، ولكن لا مجيب؛ فقد كان أغلى الناس هو رقم والدها - رحمه الله - الذي أقسمت بالله أنها لن تحذفه ما بقيت على قيد الحياة. بكى معها متأثراً بالموقف ومتأثراً بهذا الوفاء النادر وبهذه المشاعر النبيلة وبهذا الإحساس الرائع. أغلى الناس سيبقى في قلبها وفي وجدانها وفي حياتها، ولتكتب قصة في البر والوفاء والصدقة عنه والدعاء له.