من المعلوم بالضرورة تاريخياً، أننا هنا في خليج الخير بحمد الله وتوفيقه، لا نعرف الفراغ الدستوري، والفوضى السياسية العارمة، التي مزَّقت معظم بلدان العالم، حتى تلك التي تدَّعي العظمة، ناهيك عن دول القومجية الفوضوية، إذ ثمَّة عائلات كريمة وأُسر معينة أخذت زمام المبادرة في وقت مبكر، ونذرت نفسها للعمل العام، لطرد الغزاة المعتدين الآثمين، وتحقيق الاستقلال، وحماية التراب بالروح والدم والمال؛ والعمل بجدٍّ وصدقٍ وإخلاصٍ لحفظ كرامة الشعوب وتوفير العيش الكريم لها، وبسط الأمن وتحقيق الاطمئنان والاستقرار والعدالة الاجتماعية، ليتفرغ الناس للعمل والعبادة تحقيقاً لمعنى الاستخلاف في الأرض، في جوٍّ صحيٍّ معافىً، تسوده الألفة والمحبة، وتعطره هذه اللحمة الوطنية الفريدة التي لا يجد لها المراقب المنصف اليوم مثيلاً في غير دول الخليج العربية.. لحمة صادقة نادرة، تكاد لا تفرق بين حاكم ومواطن عادي إلا بالواجبات والمسؤوليات التي تترتب على هذا وذاك، فلا غرو أن يحسدنا عليها العدو ويغبطنا عليها الصديق.
من آل سعود في بلاد الحرمين الشريفين، إلى آل صباح في كويتنا العزيزة الحبيبة، عروس الخليج ودرَّته المصونة، إلى آل خليفة في البحرين، آل نهيان في أبو ظبي، ثم أسرة آل مكتوم في دبي، أسرة القاسمي في الشارقة ورأس الخيمة، عائلة النعيمي في عجمان، أسرة الشرقي في الفجيرة، عائلة المعلا في أم القوين، آل سعيد في سلطنة عُمان، ثم آل ثاني في قطر.. فكل هذه الأسر الحاكمة والعائلات، هي في واقع الأمر جزء لا يتجزأ من الشعب، تسهر من أجله، وتصل الليل بالنهار عملاً لتحقيق مصلحته، يسرها ما يسر أبناء شعبها، ويؤلمها ما يؤلمهم ويحزنهم؛ تجدها في الأحزان والأتراح أول المعزين والمواسين، وتجدها في الأفراح أول الحاضرين المشاركين لشعوبهم، سواءٌ بسواء في السراء والضراء.. لا يفسد جمال هذه اللوحة الفسيفسائية النادرة الرائعة، غير شذوذ أمير قطر الحالي ووالده من قبله، وتغريده خارج السرب، وارتمائه في أحضان أعداء الأمة المتربصين بها. لكن هيهات.. هيهات أن يسمح له أهل الخليج بنفث سمومه في نسيجهم الاجتماعي الفريد القوي المتين، المعتصم بالله، ثم بتوادهم وتعاطفهم وتآزرهم واجتماع كلمتهم.
وقطعاً، ظهر من بين قادة تلك الأسر والعائلات التي تحكم دول الخليج العربية على مر التاريخ، قادة عظماء، أبلوا بلاءً حسناً، وخلدوا بصمتهم في بلدانهم وفي وجدان شعوبهم وأمتيهم الإسلامية والعربية، بل بني الإنسانية كلها، فخلدهم التاريخ في أنصع صفحاته وأوثقها.. من هؤلاء القادة الخالدين فقيدنا اليوم العزيز الغالي أبو ناصر، صباح الكويت المشرق الوضاء، كإشراقة وجهه الصبوح الذي تزين محياه بسمة طالما أصبحت بصمة عالمية، ذلكم هو الشيخ صباح الأحمد الجابر المبارك الصباح، (الرجل الكوكتيل) كما يحلو لمحدثكم أن يلقبه. فهو رجل مستنير، على قدرٍ عالٍ من الثقافة والحكمة والعلم والرزانة وسعة الصدر، لما وهبه الله من نية طيبة سليمة، وقلب كبير حنون يسع العالم كله بأخياره وأشراره.
أجل، لقد كان صباح الكويت المشرق الوضاء، اسماً على مسمىً حقاً وحقيقة راسخة لا مراء فيها ولا جدال. وعلى كل حال، لن أحدثكم اليوم عن ميلاده ونشأته وسيرة حياته الحافلة بالعمل والإنجاز والإبداع، حتى رحيله المفجع في اليوم التاسع والعشرين من سبتمبر لعامنا هذا؛ إذ سبقني كثيرون فأوفوا وأجادوا، بل زادوا.. ولهذا أردت أن أكتفي بلمحة سريعة ثم أركز في حديثي المقتضب هذا على أكثر الأشياء التي أرى أنها مهمة مما كان يشغل بال فقيدنا العزيز الغالي ويؤرق منامه ويقلق راحته.
وبالطبع، كان الشيخ صباح مثل القادة العظماء كلهم، شديد الحرص على تحقيق نهضة بلاده في المجالات كلها. ولهذا كرَّس جل وقته لهذه الغاية النبيلة التي أسهم فيها بقدر وافر منذ نعومة أظفاره، من خلا تسنُّمه عدة مناصب لم تكن تتسنى إلا لرجل (كوكتيل) مثله، من إدارة للشؤون الاجتماعية والعمل، إلى وزارة المالية والنفط، فرئاسة الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، فوزارة الداخلية، ثم عضوية مجلس الأمة، فوزارة الإعلام، ثم وزارة الخارجية، فرئاسة مجلس الوزراء ثم رئاسة البلاد.
وربَّما سأل سائل هنا: كيف تسنى لرجل واحد أن يتقلب في تلك المناصب كلها ويحقق في كل واحد منها إنجازات هائلة مدهشة، ما زالت تذكر له فتشكر، بل ستبقى كذلك إلى الأبد، تتوارثها الأجيال القادمة، فتذكره وتدعو له بخير؟ والإجابة جد بسيطة، بل في غاية البساطة: لقد تشرَّب صباح الكويت المشرق الوضاء، الذي لم تعرف الكويت في عهده معنى الظلام، بوعي سياسي واجتماعي مبكر، أهَّله بجدارة للإسهام في تنظيم دوائر الدولة وتحديد خطط عملها. كما أهَّله قلبه الكبير الذي يسع العالم كله كما أسلفت، للاهتمام بالفئات الضعيفة من خلال دعمه اللامحدود للمشروعات الاجتماعية التي تعنى بالطفولة والأمومة والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة، كما شجع تأسيس الجمعيات النسائية، وانتصر لحقوق المرأة السياسية، واهتم برعاية الشباب من خلال تشجيع الرياضة بمختلف أشكالها، المسرح، الفنون، لاسيَّما الفنون الشعبية منها، الإذاعة، التلفزيون، السينما، السياحة، التدريب المهني. وحققت المرأة في عهده الميمون انتصارات متميزة، فشاركت في الانتخابات النيابية، وجلست تحت قبة مجلس الأمة، وتحت قبة مجلس الوزراء، بل وضعت بصمتها راسخة حتى في المجال العسكري.
وبجانب هذا كله، اتبع فقيدنا الراحل الكبير سياسة إصلاحية واضحة، رسَّخت الديمقراطية، ووسعت هامش الحريات الإعلامية، فانتشرت الصحف والمنابر الإعلامية، وعلا صوتها وكثر ضجيجها وصخبها، لدرجة تجرأ بعضها من ضعاف النفوس أتباع الطابور الخامس الذين لم تكن تخلو منهم بلاد اليوم، للإساءة لشخص سموه الكريم.
وبالطبع، لم يكن لقائد مثل صباح الكويت المشرق الوضاء، صاحب طموح لا تحده حدود، وحس إنساني فريد، أن يكتفي بالانكفاء على الإنجازات الداخلية فحسب مع عظمتها، بل أولى الشأن العربي والإسلامي والعالمي قدراً غير قليل من اهتماماته، فعمل على إحياء التراث العربي، وإليه يعود الفضل بعد الله سبحانه وتعالى، في تقديم هدية الكويت للعرب (مجلة العربي) التي طالما تلقفناها بشهية زائدة من الخليج إلى المحيط، كما اهتم كثيراً بالانفتاح على المصالح العربية، وتحقيق التضامن والتناغم معها، إذ قدم المنح للدول العربية بسخاء منقطع النظير؛ دون مقابل، خدمة للتنمية العربية وقضايا المجتمع.
وعلى صعيد آخر، أصبحت الكويت بقيادته على رأس دبلوماسيتها الذكية لأربعة عقود، ثم رئيساً للدولة، وسيطاً حيادياً مشهودٌ له بالشفافية والصدق والنزاهة، وله سجل حافل ناصع في هذا، تجاوز العالم العربي وخلافاته المعقدة بسبب فوضى القومجية وقصور نظرهم وأنانيتهم وجشعهم، بل عمالتهم لدول الاستعمار والاستكبار كما يصفونها بالليل، ثم يجلسون معها على طاولة واحدة في لياليهم الحمراء.. أقول، تجاوز سجله الحافل بالصلح بين المتخاصمين المتشاحنين العالم العربي إلى بلغاريا وتركيا وغيرهما من بلدان العالم.
وقد ساعدته في هذا تلك المحددات الأساسية التي ارتكزت عليها سياسته الخارجية من نأي بالنفس عن الأحلاف العسكرية، الدفاع عن الثورات العادلة، انتهاج سياسة الحياد الإيجابي والتوازن الإستراتيجي؛ وقد أفضى هذا كله في النهاية إلى سياسة متوازنة منفتحة على الجميع.
ألا رحم الله صباح الكويت، صاحب القلب الكبير، الذي كان قلبه يتقطع حسرة، ونفسه تتمزق ألماً لكل قطرة دم تراق أينما كانت، ولكل نفس تجوع أو تمرض فلا تجد دواءً، ولكل طفل مشرد؛ إذ كان يردد دوماً: (أعمال البر والإحسان قيم متأصلة في نفوس الشعب الكويتي، توارثها الأبناء والأحفاد بما عرف عنه من مسارعة في إغاثة المنكوب وإعانة المحتاج ومد يد العون لكل محتاج). وإن ننسى فلن ننسى أبداً مقولته التلقائية الشهيرة التي امتزجت بدمعة حزنه الحارة، يوم تسللت يد الغدر والخيانة في جنح الظلام لتفجر مسجد الإمام الصادق في 26/6/2015، الذي أودى بحياة (26) مصلِّياً: (هذولا عيالي)، بل تقدم مراسم العزاء.
فلا غرو إذن إن لقبه الناس بـ (شيخ الدبلوماسيين العرب والعالم) و (عميد الدبلوماسية الكويتية والعربية) و (مهندس الدبلوماسية الكويتية العربية ومؤسسها)؛ مما دفع فؤاد بطرس وزير خارجية لبنان الأسبق أن يشهد له في مذكراته قائلاً: (يتمتع الشيخ صباح الأحمد بقدرة فائقة على المناورة). ولا غرو أيضاً إن كرَّمته الأمم المتحدة في التاسع من سبتمبر عام 2014 وأضفت عليه لقب (قائد العمل الإنساني)، وعرفت بلاده بـ (مركز العمل الإنساني)، تقديراً من المنظمة الدولية للجهود الجبارة التي بذلها هو وبلاده بقيادته الحكيمة وسياسته العقلانية المتزنة في خدمة الإنسانية جمعاء. ولا غرو أيضاً أن يقول عنه أمين عام الأمم المتحدة الأسبق بان كي مون: (لقد مكنت جهود الشيخ صباح الأحمد الأمم المتحدة من مواجهة ما شهده العالم من معاناة وحروب وكوارث).
وعلى كل حال، يصعب الحديث عن قائد كبير مثل فقيدنا العزيز الغالي الشيخ صباح، غير أنه يكفيه فخراً أنه شارك في صياغة دستور بلاده، وكان أول من رفع علمها على مبنى الأمم المتحدة لتصبح عضواً فاعلاً يحمل رقماً مميزاً في المنظومة الدولية (111).
فإلى أشقائنا الأعزاء في كويتنا الحبيبة، نساءً، رجالاً، شيباً، شباباً وأطفالاً: أتقدم إليكم جميعاً بأصدق آيات التعازي في رحيل والد الجميع، عميد الدبلوماسية، جهبذ السياسة، قائد العمل الإنساني العالمي، أمير البلاد المفدى، الشيخ صباح الأحمد الجابر المبارك الصباح. وكلنا ثقة بربنا عزَّ وجلَّ، ثم بحكمة أهلنا في درَّة الخليج أن البلاد ستظل كما عهدها العالم كله: غصن زيتون، واحة أمن، دوحة سلام وارفة الظلال، ويد خير طولى للعالم أجمع حتى إن أفل اليوم نجم صباحها؛ إذ لا توجد اليوم دولة في العالم غير دولنا العربية في خليج الخير والأمن والسلام هذا، تودع قائدها بالدموع، ثم تستقبل خلفه بابتسامة مشرقة في اللحظة نفسها.
فإذ نعزي الأشقاء الأعزاء في عروس الخليج اليوم بأفول نجم صباحهم، نهنئهم من كل قلبنا ببزوغ نجم نوافهم الذي سيقود القافلة على خطى السلف.