فـي الأول الابتدائي فـي مدرسة سعيد بن جبير الابتدائية فـي مدينة الرياض (جبرة سابقا) دربني الأستاذ حسن من السودان الشقيق ومعي مجموعة من طلاب الصف لإلقاء نشيد على المسرح فـي حفل مدرسي تقيمه المدرسة ، وكان هذا أول حضور لي على المسرح ، وأتذكر الأستاذ حسن هادئا طويل القامة صبوراً يعلمنا جميع المواد وكانت الأنشودة هي الأغنية السودانية نفسها المعروفة ( إزيكم.. كيف حالكم.. أنا لي زمان ما شفتكم) وكان الأداء محل تقدير مدير المدرسة والحضور.. وتعلقت بالمسرح وبلجان التمثيل ووجدت فـيه وسيلة للتعبير عن قصص الناس وحياتهم .. وكنت أشارك فـي الكتابة والتمثيل والإخراج أثناء أنشطة المراكز الصيفـية، وفـي مرحلة الدراسة المتوسطة والثانوية لم يكن فـي معهد إمام الدعوة العلمي التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية نشاط مسرحي أو تمثيلي ما عدا المراكز الصيفـية التي تقيمها وزارة المعارف آنذاك ، وأشهرها مركز متوسطة القدس أو فلسطين بالقرب من مستشفى الشميسي فـي الرياض ، وكان فـي تلك الفترة من أكثر المراكز الصيفـية نشاطاً ، وأذكر أن مديره فـي أوج مراحل نشاطه آنذاك الزميل الدكتور عثمان المنيع ، ومسؤول النشاط الزميل الأستاذ مطر الأحمدي ، وكان حينها معيداً فـي جامعة الملك سعود مهيأً للابتعاث لدراسة العلوم وكانت الأنشطة على قدم وساق يسودها المحبة والنشاط والترفـيه والتعاون بين الجميع ، وأتذكر الحفل الختامي الذي شرفه سمو الأمير سطام بن عبدالعزيز -نائب أمير منطقة الرياض- وكان هناك أداء لأوبريت شهر العسل قام به الزميلان إبراهيم الوهيبي ومحمد المنصور ، أما المسرحية الرئيسة فقد أخرجها مشعل الرشيد ، وأشرف عليها سمير الدهام ، وموسيقاها التصويرية لمشعل الرشيد، وكانت موسيقا حزينة تتناسب مع قصة بطل المسرحية والذي قام بها صاحبكم وهو دور شاب لـه معاناة داخل أسرته ، وقام بدور الوالد الزميل عبدالعزيز السعيدان .. ثم واصلت هذا المجال فـي وقت فراغي فـي جمعية الثقافة والفنون وفـي فرع المسرح مع الأستاذ إبراهيم الحمدان وسمعان العاني ومحمد العلي -رحمه الله- وبكر الشدي -رحمه الله- وغيرهم ، واشتركت فـي مسرحية قطار الحظ بدور رجل كبير السن اسمه (أبو ملقاط) وكان بطل المسرحية علي إبراهيم وعلي الهويريني وعلى المدفع -حلوه كلهم علي- وغيرهم ، واشتركت فـي التمثيل الإذاعي فـي إذاعة الرياض فـي برنامج (على هونك) و(مجلس أبو حمدان) و(سنوات المجد والعبر) و(أهل الخير) برفقة الصديق الدكتور عبدالمحسن الرشود والأستاذ عبدالكريم الخطيب وعبدالرحمن المقرن وحمد الصبي ومهدي يانس وكمال سرحان وزكريا شمس الدين وغيرهم ، إلى جانب المشاركة فـي التقديم والتمثيل ببرامج تقدم باللغة العربية الفصحى.. وباللهجة العامية .
كما كنت أشارك فـي مقاطع تمثيلية تلفزيونية توعوية قصيرة... وكل هذه فـي مرحلة الدراسة الثانوية والجامعية... حيث كان الأمر متعلقا بالهواية وبعضها بالرغبة فـي تحسين الدخل ، حيث كان هناك مكافآت من الجمعية والإذاعة... وقد بعث لي الصديق القديم المقدم متقاعد خالد عقلة من الأردن الشقيق صوراً قديمة أثناء مشاركتنا فـي نشاط المسرح فـي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (وهو من طلاب المنح آنذاك)، وكان يحظى بتشجيع ودعم ومساندة من مدير الجامعة آنذاك معالي الدكتور عبدالله التركي وعميد شؤون الطلاب الدكتور صالح بن سعود العلي ووكيله الدكتور خالد العجيمي وعميد كلية العلوم الاجتماعية الشيخ الدكتور محمد بن عرفة... وكنا نؤدي مسرحيات باللغة العربية الفصحى تتعلق بالتاريخ الإسلامي وبالحضارة الإسلامية وتجد تشجيعاً من الحضور... وكنت نحيفاً أسمر (سأعيد ذكر هذه العبارة مرة أخرى) أقوم بدور الحاجب وأحيانا بأدوار رئيسة عن شخصيات الحضارة الإسلامية .. بمعنى أن الذكريات القديمة إبَّان المراحل الدراسية مليئة بالمواقف الجميلة ، حيث البساطة والتلقائية التي كنا نعيشها فـي الأنشطة الطلابية ، وأتذكر حفل اختتام النشاط المسرحي لمركز صيفـي أقيم فـي ثانوية الجزيرة رعاه صاحب السمو الأمير التربوي والمثقف خالد بن فهد بن خالد وكيل وزارة المعارف آنذاك، وكنت حينها مشاركاً في التمثيل فـي ذلك الحفل، وأتذكر أن وزارة الدفاع عن طريق الأستاذ المؤلف القدير عبدالرحمن الشاعر قامت برعاية مسرحية بعنوان (حلو يا حنضل[F1] ) وأجرينا بروفات مطولة مع بقية الزملاء ولكنها لم تعرض لأسباب رقابية...
وفـي طفولتنا بدأت السينما وكان تأجيرها من محلات خاصة بها فـي حي المربع، واستئجارها إما عن طريق بعض المقتدرين فـي بعض الأسر ليعرض على العائلة بحضور أكبر قدر ممكن من الأقارب حيث أفلام فريد شوقي وشمس البارودي وأحمد مظهر وشكري سرحان وفريد الأطرش وكمال الشناوي وشادية وإسماعيل ياسين وغيرهم أو يقوم الشباب بعمل (قطَّة.. أي دفع مشترك) ويتم استئجار الفـيلم ثم عرضه فـي منزل أحدهم والتفرج عليه ، وغالباً يكون ذلك فـي ليلة الجمعة... ثم بدأنا فـي مرحلة المراهقة بالتزاحم على سينما الأندية التي كانت تعرض الأفلام العربية كأفلام فؤاد المهندس والأفلام الأجنبية كـ(بروس لي)، وذلك فـي أندية الهلال والنصر والشباب فـي الرياض وإذا سافرنا للطائف فـي الصيف نذهب للسينما فـي نادي عكاظ الذي اشتهر بعرض الأفلام، وكنا نتابع الحركة الفنية عن طريق ما ينشر فـي الصحف ، وبالذات فـي المجلات الفنية اللبنانية كالجديد والخواطر وكانت تباع صور الفنانين مع صور اللاعبين آنذاك مع الحلويات واللبان ، حيث صور فاخر فاخر وعمر الشريف وفاتن حمامة ويحيى شاهين ووديع الصافـي ونصري شمس الدين وغيرهم..
وبجانب سينما الأندية كنا شغوفـين بالتليفزيون الذي يبث أفلاماً أجنبية كالهارب ومسلسل الكابوي بن كاتريت وأبنائه جوي وهوس وآدم فـي مسلسل (بوننزا) وكذلك المسلسلات اللبنانية كفارس بني عياد والكنز وأبي فراس الحمداني ، وذلك من بطولة سميرة بارودي وميشال ثابت وليلى كرم وإحسان صادق ورشيد علامة ومحمود سعيد والمؤلفة جلبهار ممتاز ووفاء طربية وغيرهم ، كما أن التليفزيون كان مصدر متابعة لمسلسلات (كالليل الطويل) و(حنكشة العتقي) و(هالة فاخر)، إضافة إلى المسرحيات التي تعرض كمدرسة المشاغبين ومسرحيات عادل خيري وماري منيب وأمين الهنيدي ومسرحيات فـيروز العديدة وأفلامها كبياع الخواتم، وربما أسهم هذا فـي زيادة مخزون الخيال أثناء تجسيد الشخصيات التي تعيش فـي الحياة، فما نراه الآن من شغف ومتابعة من قبل الجمهور فـي كل مكان بالمسلسلات والمسرحيات والأفلام إلا لكونها تجسد الواقع الذي نعيشه ، فـينجح الممثل أو الممثلة فـي عرض قصة المؤلف بطريقة تجعلنا ربما نعالج مشكلة اجتماعية عن طريق إيصال فكرة بالدراما.. وكم تغالبك دموعك وأنت تتابع أداء ممثل فـي موقف إنساني ربما عايشته ، ولكنك حينها لم تتمكن من التعبير عمَّا فـي داخلك من خلجات ومشاعر.. وألحظ كثافة الأسر السعودية التي تحضر الأفلام العائلية والأسرية وأفلام الأطفال والأفلام العربية والأجنبية التي تعرضها دور السينما فـي دبي والبحرين ومصر ولبنان والكويت وغيرها من الدول التي يزورها السعوديون فـي الإجازات..
أما وفاة الفنان أحمد زكي -رحمه الله- فقد أثرت على كثير من محبي هذا الفنان ومتابعيه الذي كانت بدايته عن طريق مسرحية مدرسة المشاغبين وأدائه البسيط التلقائي ، ثم توالت نجاحاته وهو الممثل الأسمر النحيل عبر أدائه لشخصيات طه حسين فـي (الأيام) وجمال عبدالناصر فـي (ناصر56) وأنور السادات فـي (أيام السادات) وأفلام أبناء الصمت وصانع النجوم وشفـيقة ومتولي ومع العمر لحظة ووراء الشمس وإسكندرية ليه وامرأة واحدة لا تكفـي وأرض الخوف وزوجة رجل مهم والباطنية والرجل الثالث والبريء ومعالي الوزير.. وأول ما لفت نظري فـي أدائه هو دوره فـي (أنا لا أكذب ولكني أتجمل) الذي عرضه التليفزيون السعودي قبل سنوات وفـيها جسَّد أحمد زكي دور طالب الجامعة ابن الأسرة الفقيرة المعدمة الذي يسكن مع أهله فـي المقابر لضيق الحال، ولكن تهيم به ابنة الأغنياء آثار الحكيم فـيحاول أحمد زكي مثل الكثير من الشباب تجاهل واقعه بمحاولة إظهار نفسه بغير حقيقته حتى يصطدم بوجود والدته فـي الفـيلم وهي تعمل خادمة لكسب العيش الشريف فـي قصر أحد أقرباء أهل حبيبته، والشاهد فـي الموضوع هو بساطة وتلقائية أداء أحمد زكي فـي جميع أدواره فهو لا يشعرك بأنه ممثل ، بل إن من قدرته على تجسيد الشخصية وإخلاصه فـي إظهارها بالشكل الأمين أنه يعرضها دون رتوش أو مبالغة أو انفعال كاذب.
قد أقول -وبدون مبالغة- إنني عندما أشاهد أفلاماً لبعض الممثلين أو الممثلات العالميين أستطيع تصنيف أحمد زكي من ضمنهم.. فتشعر وأنت تشاهد ريتشارد كير أو داستن هوفمان أو بروس ويلز أو توم كروز أو جوليا روبرتس وغيرهم أنك أمام الممثلين إلى درجة أنك تخرج من الفـيلم وأنت تعجب من الدقة فـي الأداء والتمكن من تصوير الناس فـي حياتهم وكأنهم الحقيقة ..؟ ولهذا تصل أرقام دخول الأفلام مبالغ طائلة ، وانظر إلى أنطوني كوين فـي (عمر المختار) لترى تلقائية الممثل ونجاحه..
وقد وُفق زاهي وهبي وهو يقدم لنا أحمد زكي فـي الحوار الذي عرضته قناة المستقبل (إعادة) فـي يوم وفاته -رحمه الله- وكيف كان حديثه مليئاً بالتجارب والرؤى الاجتماعية العميقة والحضور الإنساني الجميل وتصوراته عن أدواره وحياته وإيمانه بالله - عز وجل - وتلقائيته وتواضعه ورغبته فـي تقديم أقصى ما يستطيع لخدمة البسطاء والعاديين من الناس..
لقد أوفت مصر -كعادتها- ممثلة فـي الحكومة ورجالاتها وفـي مختلف طوائف المجتمع ، وخرجت تدعو بالرحمة والمغفرة لأحمد زكي الذي هو بين يدي الله سبحانه وتعالى ندعوه أن يغفر لـه ويتجاوز عنا وعنه فقد قام بمعايشة حياتنا وجسَّدها بكل بساطة وصدق، وأوجد فـي داخلنا ذكرى فـي أدواره سواء فـي دور ضابط فـي (زوجة رجل مهم) و(أرض الخوف) أو سائق أو بواب أو شاب مكافح أو صحفـي إلى غير ذلك من الأدوار التي قام بها أحمد زكي -رحمه الله-..
بقي أن أقول: إن زبدة الموضوع فـي مقالاتي هذه هو التحذير من السبب المبدئي الذي توفـي على إثره أحمد زكي ، فقد كان أكثر ما يزعجني فـي أفلامه كثرة إشعاله لسجائر التدخين وإن كان ذلك ضمن الدور المطلوب منه فـي شخصية الضابط أو الإعلامي أو غيرها من شخصيات الحياة حيث ينتشر التدخين، إلا أنه أمر مؤلم ينبغي عدم تجسيده وتأكيده.. والمؤشرات تقول : إن أحمد زكي كان مدخناً شرهاً -والعياذ بالله- وإن إصابته كانت فـي سرطان الرئة وهذه فرصة لإيصال رسالة واضحة للشباب ليدركوا ضرر التدخين وخطورته على الحياة ، وأن نسهم فـي تكثيف التوعية ضد التدخين عبر وسائل الإعلام المختلفة وفـي المدارس والجامعات وخطباء المساجد ، مع الحرص على منع الأفلام أو البرامج أو الإعلانات أو الإشارات التي قد تزيد من رغبة التدخين ، وخطورة التدخين تتمثل فـي ضرره الصحي ، كما أنه محرم شرعاً حسب فتاوى عدد من العلماء المعتبرين إضافة إلى إنفاق المال فـي خبث ضار للصحة والمجتمع وهو بداية للتمرد والدخول للأسف فـي نفق المخدرات لا سمح الله...
ووفاة أحمد زكي جرس إنذار للمدخنين وتوعية لنا جميعاً فـي أهمية زيادة الوسائل المتخذة للتحذير منه ؛ لأن الملاحظ زيادة ممارسة هذه العادة الخبيثة لدى الرجال والنساء ، راجياً أن تكون هناك خطة رسمية من جميع الجهات الحكومية والخاصة فـي محاربة التدخين وتضييق أماكن ممارسته .