في ذات يوم مقمرٍ على ايقاعات النسيم العليل، اتصل بي صديق مقرب للعائلة حادثني بعد أن قص مسافات الأُفُول، وخلق من رحم الغياب أعذار، وقرر الإلتقاء بي بعد شعث من الزمن في ذلك المقهى الصغير، حيث مكث في إحدى زواياه الداكنة يعد سيوف الثواني بانتظاري، رغم مرور برهة إلا أنه لم يقطع جدائل الأمل، ليحادثني مرة أخرى أين أنتِ ..؟
حضرتُ والإضطراب يعتريني ورجفة أركاني تكتسيني، فوجدته يرقبني مع حلوة المذاق مرة الطعم، التي تفوح منها رائحة الكلام، وكعك يتوكأ على إناءٍ يعلو وجهه حمرة مزركشة، جلستُ أمامه وشعرتُ بأن زلزالٌ يضرب عاصمة نبضي، والأنفاس تتوهج بلهيب الارتباك، بدأ بإبتسامة مشاكسة، وأخذ يتحدث بديباجة لطفٍ معي، فوقع صوته في حانات وريدي كأنه مزمار من مزامير داود، بل بلسم يغدق الروح، يغمض عينيه ليحلق في عالم الأحلام بلا حدود، ثم يحدق بي تبعثره نظرات التأمل، ثم ارتشفنا تلك السمراء، يملأ وقتنا أعزوفة من الروايات، تتبعها ترانيم الإبتسامات.
تبادلنا أطراف حديث الأرماق، نصمت ثم نتحاور أنصتُ لبديع خطابه، وما زالت الدهشة تسكنه ليخفي كل حديثٍ عذبٍ دار بيننا في صندوق الأمنيات، وما زال الذهول يجثوا على سطور الحروف بيننا يتعثر حيناً ويركض مرة، وكل نظرة كالشموع المضيئة تنير عتمة الحياة، ويح قلبي إنه ينصت لنبضاته أسمع ما بداخله من ضجيج الوله، بلابل تغرد بدفوف الشوق، يوشوشني بجنون الهيام. شعرتُ بأن السكون يخيّم على المكان، ولا يوجد بالكون أحدٌ سوانا، فأحسست بأن اللوحات تنظر إلينا بإعجاب، والكراسي تلتف حولنا تتراقص، والأضواء الخافتة تبتسم، حتى لمسة يده لم تكن إلا كالأم الرؤوم كل أنملة تحكي فصول العناق، فبه نهضتْ مباني أمل سنين عمري.
حينها امتطى ذلك المياس صهوة البهجة وخلع نعل البؤس بدهاليز الصحاري، فتبددتْ عنه سيول الألم العرم، إنجلت غيوم أيامه القاحلة بسحابة فرح، هطلت سيمفونية البشاشة على ثغره التي لم تنضب لتبدأ طقوس الإحتلال بضباب المشاعر المتقدة، لم أعرف سوى أنني نقشت اسمه بين أزقة شراييني وأرصفة ضلوعي، متوجاً بقلبي يُغْنيني عن العالمين، سأخبأه عن غدر البشر بين نهار روحي وليل قلبي، واعتكف سبعة ليالٍ سويا، لن أكلم بعدك بشرًا، ليبقى هو سرمدي وأزلي ليس بعده شيء.
مر الوقت دون أن نشعر وكأنها دقائق معدودة، كأن الزمن ابتلع ساعاتي، كم تمنيتُ أن أبقى معه دهوراً لا أفارقه، أزف وقت الرحيل ودعته وبالقلب غصة، وبالعين دمعة، ركضتُ مسرعة كالبرق نحو المخرج، لتسقط أيامي الرثة من صفحة الحياة المريبة، دون سابق انذار اسدلتُ خلفنا ستائر عندليب الحب العفيف، فاغتسلتْ مضغتي من براثن الماضي التليد، ثم تزملتُ في محرابه، وتعطرتُ بنبيذه الآخاذ الذي طغى على كل السلاطين.
ومضة :
أنتَ فقط من يرتعش له قلبي، وينبض بكَ في كل دربي .