في سورة الأنبياء.. يقول تعالى {وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَاۤءَ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَا لَـٰعِبِینَ لَوۡ أَرَدۡنَاۤ أَن نَّتَّخِذَ لَهۡوࣰا لَّٱتَّخَذۡنَـٰهُ مِن لَّدُنَّاۤ إِن كُنَّا فَـٰعِلِینَ} [سورة الأنبياء ١٦، ١٧].
خلق الله السماوات والأرض بالعدل والقسط، وليس عبثًا، فالغاية واضحة، ويقرر المولى أنه لو أراد اتخاذ لهو لاتخذ ذلك اللهو من عنده.
وقيل إن اللهو يقصد به الحور العين، أو الولد، وحاشاه تعالى عن ذلك، ويختم الآية بقوله جزمًا وحزمًا (إِن كُنَّا فَـٰعِلِین) أي (وما كنا فاعلين)، حيث أن "إن" في القرآن كما قال مجاهد: “ما جاءت إلا للإنكار”، ففي الآيتين ينفي المولى عبثية الغاية من خلقهما وأنهما لم يخلقا للهو واللعب.
ثم تتوالى الآيات، ويستنكر تعالى اتخاذ البعض إلهًا سواه، فالله إله واحد أحد ولو كان له شريك آخر لاختل التنظيم الدقيق والبديع الذي تسير عليه موازين الأمور في السماء والأرض (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وهذا دليل على الإقناع العقلي في السياق القرآني، فلنفكر معًا، فعلى مستوى حياتنا الدنيا حين يدير رئيسان شركة واحدة فمآل هذه الشركة الانهيار ولا ريب، حتى وإن نجحت الشركة بالقيادة المزدوجة فلربما لأن مهام كل منهما محددة ومحصورة وقاصرة مهما تشعبت، ومع ذلك فنجاح المركب بربانين أمر نادر ومستحيل الحدوث، وإن حدث فتجد تضارب الآراء واختلاف الرؤى، والذي يصدر عنهما كثرة الأخطاء ومواطن القصور، وقد تغرق السفينة لهذا السبب.
ولله المثل الأعلى فلو كان لله شريك -حاشاه تعالى- لما كانت السماوات والأرض وما فيهما تسير جميعها على هذا النظام الدقيق المعجز الذي لا خطأ فيه، ولا قصور، ولا تعارض، ولظهرت أخطاء، وبانت فروق، وظهر فساد في المنظومة. لكن أن يكون الكون بهذا الإعجاز وتلك الدقة إنما يعزى السبب لتفرد من صنعه ووحدانية من يسيره، فهو إله واحد فقط، له الكمال وليس كمثله شيء، يتحكم في كل شيء؛ لهذا وجب تنزيهه عن كل شريك، وتقديسه عن كل شراكة، أو أن يكون له ولد.
وتستمر الآيات في تأكيد ألوهية الله ووحدانيته، ونصل إلى حقيقة كونية مهمة في الآية الثلاثين من سورة الأنبياء {أَوَلَمۡ یَرَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَنَّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقࣰا فَفَتَقۡنَـٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّۚ أَفَلَا یُؤۡمِنُونَ}
يقال: رتق فلان الفتق إذا شده، فالسماوات والأرض كانتا ملتصقتين فصدعناهما وفرجناهما. واختلفت الأقوال في معنى الرتق والفتق، فيقال: كانتا ملتصقتين ففصل بينهما بالهواء، ويقال: تم فصلهما برفع السماء ووضع الأرض، وقال آخرون: إن المقصود بأن السماوات على حدة كانت مرتتقة ففتقها الله إلى سبع سماوات، والأرض كذلك كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها سبحانه إلى سبع أراضين، وقال بعضهم: إنها كانت سماء واحدة ففتقها -سبحانه وتعالى- إلى سبع سماوات في يومين هما الخميس والجمعة، ولهذا سمي يوم الجمعة كذلك لانه تم فيه جمع خلق السماوات والأرض ومجموع خلقهما في ستة أيام.
ويقال بأن الليل خلق قبل النهار (ففتقناهما) تعني فتق النهار،
وهناك تفسير آخر بأن السماء كانت رتقًا لا تمطر، والأرض رتقًا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، وهذا يوافق تكملة الآية من بعده، حيث إن إنزال المطر من السماء يسبب وجود الماء، وخروج النبات من الأرض تبعه تأكيد كون الماء نعمة من الله تمنح الحياة لكل شيء فتجعله مستمرًا بالحياة -بقدرة الله وفضله-، فلا شيء يوصف بأنه حي إلا وله حياة وموت والماء من أسباب ومقومات الحياة الرئيسية. وقال قتادة: “كل شيء حي خلق من الماء”.
وفي بيان (كانتا) قد يتساءل البعض عن عدم استخدام الجمع؛ فالسماوات جمع، وجمع الإناث يقال في قليله (كن) ولكثيره (كانت) فالجواب أنه قيل ذلك لأنهما صنفان أي مثنى فالسماوات نوع والأرض نوع آخر؛ لهذا كانت الآية (كانتا رتقا).
لطائف مستفادة:-
١- السماوات والأرض خلق من خلق الله، يظهر قدرته وتفرده وإبداعه، وتوصيف خلقهما يفتح مدارك عقولنا لاستيعاب ألوهيته والشعور بالذِّلة والصغر في ظلهما؛ فمهما اعتليت أيها الإنسان تظل تحت هذه القبة التي خلقها الله، فاعرف حجمك، كلما أردت أن تجحد أو تطغى ارفع عينيك واحتضن سماءك وتمتم: (سبحان الله).
٢- إن ناقشت من يداخل قلبه شك أو ريب في توحيد الله، استخدم معه أدلة الإقناع العقلي، خاصة مع ظهور بعض الحالات الفردية من الإلحاد أو الانحراف العقدي. اقدح زناد فكره الذي يظنه عظيمًا ومختلفًا ليفكر كيف أن وجود الله هو الذي يجعل الكون بهذا الإبداع والإعجاز، خاصة إن كان عالمًا فسيدرك معنى الإبداع العلمي والإتقان في إنشاء الكون وتسييره، وإن كان خامل الفكر بليدًا حاول التاثير عليه وجدانيًّا، فلكل شخص مفتاح وفق أدواته.
نسأل الله ثبات القلب على الدين، واستمرار العقل على الإدراك والفهم.