كثير من البيوت فيها واحد من كبار السن ، تأرز إليه الأرواح ،وتهوي إليه الأفئدة ،ويلوذ به أحدنا إن حمي عليه وطيس الحياة ويلجأ إليه أحدنا إن احتدمت الخطوب و أدلهمت عليه المصائب يلتمس عنده المشورة، و يمتاح من خبرته وينهل من معينه ويشرب من مورده العذب .
هو مدرسة الحياة في أجلّ معانيها وأعلى مقاماتها وأنبل فضاءاتها نعمة أنعم الله بها على تلك البيوت يمثل كبير السن حائط صد ويجسد الحماية في أقوى مراميها ؛ يعطيك سلافة تجربته ويمنحك عصارة خبرته ويهبك زبدة أفكاره ويقيك – بإذن الله – من الخطأ ويمنعك –بأمر الله – من الزلل .
يكون بمثابة الأمان من نكبات الدهر ، وتستمد منه القوة عند الخور، فهو باب بينك وبين الآفات وحاجز بينك وبين المكاره، إن وقع هذا الباب أو هوى ذلك الحاجز تجدك مواجَها بها لا تكاد تدرك كيف تفعل.
ولكن إن غادر الفانية، فلا أقول لكم كيف تكون تلك البيوت وهي خاوية على عروشها ،لا تكاد تسمع فيها إلا صفير الريح ،وحفيف الشجر ، خلت وخوت وأقفرت ، ومضى الكبير وكأنه أخذ معه الأنس، وحمل معه الإلف ، فلا تجد الباب مفتوحا ،ولا الناس مجتمعين ولا الضحكة مجلجة ،ولا الأصوات ندية ، ولا الكلمات معبرة ولا الابتسامات نقية.
بعده يكون الجميع في شغل من أمرهم دون شغل، في عجلة من أمرهم دون مبرر ، يمضون لا يدرون إلى أين ، لا يستمتعون بجلسة ولا يستسيغون شرابا ،ولا يستلذون بطعام ، ولا يهرعون للعودة لأن الركن الركين والحصن الأمين الذي يعودون إليه لم يعد موجودا .
غاب وغابت معه الرحمة، ومُحقت البركة ، وذهبت المحبة، وحمل معه كل شيء جميل ، فلم تعد للحياة معنى، ولا للجماعة وحدة ،ولا للقاء فرحة، ولا للاجتماع سعادة، ولا في العودة رغبة.