تتفاوت المهن والحرف على مر العصور بين المرموقة و المتواضعة، والعظيمة والبسيطة، و المهمة والسخيفة، وفي الحقيقة أيا كانت المهنة أو العمل الذي يزاوله الفرد طالما نفع به الخلق وعمر به الأرض فهو مهم، وإن كان في مستويات دنيا وفق معايير الناس.
وارتبط تقسيم المهن والأعمال من حيث الأهمية بمعايير تشمل شرفها ودائرة نفعها، ومدى الاستفادة الحاصلة منها،
لكن مع تغير حال المجتمعات واختلاف الموازين التي يقيس بها الناس النفع والأهمية، خاصة مع وجود عشرات العوامل المتضافرة من تأثير الدين واتفاق العرف وتغير أنماط المعيشة من القرية إلى الحضر، وما واكب سقوط الأمم وقيام غيرها، وتسلط الأيديولوجيات البراجماتية، وظهور مارد الاستهلاك وحب الظهور وطوفان التواصل التقني، كل ذلك خسف ببعض المعايير الشرفية ودفع إلى السطح بمقومات الضحالة من مال وجمال شكلي و"أبهة" خارجية مما رفع مكانة بعض المهن فطاشت كفة المهن التي كانت عليا ومقدسة، وعظمت مهن لم يكن لأهلها فخر، يذكر ناهيك عن الاضطهاد والازدراء من المجتمع.
لست ممن يكرهون فنون التشخيص والتمثيل أو يهينها، بل على العكس أرى في الفن نفعا عظيما إن سخر له نصوصا قيمة وإخراجا بديعا وفكرا راقيا.
و يجذبني الفن السابع والدراما ربما لبحثي الدائم عن الخيال المترجم بين النص المكتوب والنص المرئي، وإطلاق عنان حصان خيالي في جموح جميل؛ بحثا عن مواطن البهاء الفكري و مايرضي الحواس.
و للعاملين بالفنون من أصغر عامل إلى أكبر ممثل أو مخرج أو كاتب سيناريو أو مصور أو أيا كان عمله كل تقدير يستثني من هذا التقدير أهل الفكر الضال وإشاعة الفساد و الانحلال.
ومع هذا وبعين موضوعية ناقدة نجد هذا العصر يتسم بسمتين: سمة علو شهرة أهل البضائع الكاسدة، و سمة هبوط منزلة أهل العلم والدين وذوي المهن النافعة.
معلم يأكل منه التدريس عمره وينهب حياته، طبيب يركض بين المرضى وأروقة الجراحة، موظف يمنح إدارته شبابه وشيبته، عالم يسجن متعته في رواق معمله وتجاربه، كل هؤلاء قد لايسمع بهم أحد، ولايصفق لهم أحد وإن أجادوا وأبدعوا، بينما ممثلة مبتذلة لاحس لديها و لاموهبة، وشهيرة مرتزقة لا تفقه من الدنيا شيئا إلا حجم أنفها الذي يكاد يختفي كشطا وتصغيرا، وتضخم شفتيها اللتين تكادان تنفجران نفخا، ومغني ينعق بصوت منكر وكلمة هابطة، تجد هؤلاء وقد طارت بشهرتهم الآفاق.
إيه يازمن أرباع القوائم بل أعشارها، المفارقة أن حتى المجيد والمحترم من أصحاب مهن الفنون و من يستحق الشهرة والتمجيد لهو محظوظ، فالناس تصفق له مع كل إجادة والجماهير تشاركه كل ذكرى جميلة وخبرة جديدة، بينما ذاك المعلم قد يكون لديه ألف موقف مبجل يستدعي التكريم داخل ستر الفصول ولايكرم، وقفات المجد هنا مغمورة مستورة بينما يحتاج هذا المجيد في نهاية رحلته خاصة أن يشاركه الناس أمجاده التي لم يطلع عليها أحد قبلا.
وقفات المجد والإجادة قد تلمع كنجمات في المجرة وقد تبقى كحجارة الماس طي الصخور و المناجم الدفينة لايعلم عن وهجها أحد.