لقد انطبعت صورةٌ ذهنيةٌ عن الجنوب وأهله في أذهان الآخرين تقول: (إننا لانجيد غير البكاء على الأطلال، وليس لدينا إلا وتر الماضي نعزف عليه لحن الحنين)
إلى كل الذين يرون أننا أصحاب تراث، ويسكننا الحنينُ إلى الماضي، وأننا أهل "هياط ومهايط" وثياب غريبة، نضع كميةً كبيرةً من أغصان الأشجار على رؤوسنا، ونتمنطق السلاح الأبيض، و إننا أصحاب ( دمَّات، وزلاف، وربش، ومعشى، وعزاوي، وكلمات بذيئة في حواراتنا) إليهم أقول: للأسف نحن السبب في ترسيخ تلك الصورة الذهنية المؤسفة، والمحببة لنا فعلا لتمسكنا بها وإفراطنا في عرضها بشكل يوحي بأصالتها، في حين أنه لايمت للأصالة بصلة، ثم تفريطنا في إيصال صورة تقول للآخرين الذين يرون أن التمسك بأصالة ماضينا وتراثنا سئ ويعطي صورةً سيئةً تجعلهم يتجاهلون الجانب المُتحضر المُعاصر والذي يواكب عجلة التطور.
فقد جعلنا مهرجاتنا، وفعالياتنا، وصورنا في الإعلام المرئي، أو في وسائل التواصل الاجتماعي عبارة عن حنيذ، وخمير، ودخن، ومغشات، ومرسة، وزلاف وأزيار، ومزمار، ومشعاب، وفوق روؤسنا أعشاش، جمعتها الغربان، وملابس تراثية وكأننا في عام 1343، ... وأهملنا الجانب المضيئ الذي فيه الدكتور، والمهندس والأديب، والشاعر، والطبيب الحاذق، والمخترع وصاحب الإبداع، في مختلف الاتجاهات، ولأننا قوم نحب المعارك والحروب، فكل قصائدنا تمجد الأنا والقبيلة، لقد تصدرنا بماضينا وتمجيد جيل السبعينات، والثمانينات، والتسعينات،وأهملنا جيل الأبناء، شباب الأندومي، والبستاشي، والايسبريسو المعتق، والدونات،والبشاميل، والقهوة الباردة، لقد تغنينا بأصحاب "زمان يافن" و"عادك إلا صغير بدري عليك الهوى" "ومثل صبيا في الغواني ماتشوف" و"شنشني شنشني يامطر رشني" و"أنا بعشقك أنا" ونعيب على ذويقي..شيلة الونة، واشتغلنا على تهميشهم ونسينا أنهم جيل النت الذي جعلنا نشرح لأكثر من أربعين طالبًا في فصل الكتروني، ونوصل له المعلومة في أزمة تسمى "كورونا" أردت بألاف الأرواح وكانت ستوردي بجيل التسعينات عن بكرة أبيه، لولا لطف الله ثم عقول جيل واعد كانت له بصمة في مجال الطب، والإسعاف المنزلي، والتدريس عن بعد!.
ناهيك عن الرقم القياسي الذي يحققه جيل اليوم حتى في المشهد الكوميدي.
لقد اتجه بعضهم إلى الشهرة بلا شئ وهو يملك محتوى كبير والسبب نحن!!.
لقد استسلم خريج الجامعة تخصص كيمياء، ورياضيات التي كانت عقدة جيل الثمانين والتسعين، بل وخرجوا إلى الشركات يبحثون عن عمل تحت رئاسة الغريب الذي يتقاضى راتب ثلاثة معلمين، ويركب سيارة فارهة ويضع العقدة في المنشار مترصدًا لهذ الخريج الذي طبع في مخيلته أنه لايجيد إلا رقص العزاوي وتحضير الحنيذ!.
الناس ذهبوا بعيدًا وتوفرت الوظائف لهم ولأولادهم، والمشاريع، والتنمية عندهم ولنا الفتات، لأننا قوم نرى المطالبات عار، وكل تنمية تمنحنا الدولة مضيعة للوقت، أو إفساد لماضينا التليد، وموروثنا الذي لازلنا نحتفظ به!!.
إن تم إيصال الكهرباء غنينا للفانوس، وإن فتحوا لنا طريقًا بكينا على سُبلنا الضيقة، وإن حضر مستثمرٌ لأراضينا البور، وحولها إلى مشروع مثمر، تذكرنا دُخننا وجُـلجلاننا، وتحدثنا في مجالسنا عن جدنا الذي كان يزرعها ذرةً، ويرعى أبقاره فيها، وإن ذهب أحد أولادنا لمقابلة وذكر أنه من الجنوب تجاهلوه حتى لو كان فريدًا فذٍا، لديه ماليس لدى المتقدمين من المناطق الأخرى!!.
سوف أسرد لكم قصة من الواقع عن جنوبي، ولكن في الجزء الثاني لهذا المقال
حتى لا يفترس القارئ مللُ سوف أتوقف.