كانت ألساعة تُشير حينها إلى ألعاشرة والنصف قبل منتصف ألليل، كنتُ على عجلةٍ من أمري، لأن الأرصاد كانت تشيرُ إلى وجود حالةٍ مطرية غزيرة. بعد سيرٍ طويل.. قررتُ التوقف للشراء من أحد المَحالّ التي أرتادها كثيراً. ثم وبطريقةٍ ما رتبها الله التقيت داخل المَحل بمسنٍ فاضل، تبدو عليه ملامح السكينة والوقار.. وكان طويل القامة، أسمر ألبشرة، غائِر ألعينين، كلاسيكي ألمظهر.
ظلّ ينظرُ إلي.. وكأنه رأى في ملامحي صورته ألقديمة.! بعد لحظاتٍ معدودة، أبتسمَ وبادرني بسؤال عن مكانٍ يود الذهاب إليه، فأجبته عن ذلك. لكن لهجته ظلت لغزاً محيراً بالنسبة لي.! لقد كانت غريبةٌ بعض الشيء، ورحتُ أفكر في ذلك، حاولت أن أربط بين شكله وبلده.. فشكله يوحي بأنه سوداني أو مصري من النوبة "ألمناطق ألحدودية بين ألبلدين"، إلا أن لهجته أيضاً لم تكن تنتمي لتلك المنطقة؛ لأنني أعرفها جيداً.. وبينما أنا غارقٌ في تفكيري.. قاطعني بسؤالٍ آخر: من أين أنتَ يا بُني؟! هُنا تنفستُ ألصُعداء، وقلتُ في نفسي الآن صارت مهمتي أسهل!
قلتُ: أنا من كذا وكذا، فقال: ما شاء الله...إلخ.
وأنتبهت في حديثه أنه يدخلُ بعض المصطلحات الفرنسية، مع محاولته ألحديث بطريقة سهلة ومفهومة إلا أن لهجته الأصلية كانت طاغية. ثم جاء دوري الآن وسألته بكل فضول: من أين أنتَ يا عم؟ فـ لهجتك مألوفةٌ لدي.. فأجابني: أنا محمد طاهر من الجزائر وأيضاً من النيجر لكني جزائري.! تعجبتُ من قوله! وربما لاحظَ ذلك، ثم أردفَ قائلاً: نحن من الصحراء يا بني ننتقل عبر الحدود لكن أستقر بنا ألمُقام في ألجزائر، وكأن لسان حاله يقول"بالنسبة لي لا يوجد فرق بين ألبلدين ولكني أخبرك بذلك لأنك سألت ولأنني أحمل أوراقاً جزائرية".
قلتُ له: نعم، صدقت القول يا عم! قلتُ في نفسي لاشك بأن في جعبته ألكثير، ثم بدأت أحدثه عن بعض ألمعلومات ألتاريخية ألمتواضعة ألتي أعرفها عن ألبلدين. وظل يستمع إلي بأهتمام.
وما أن أنتهيت حتى بدأ يحكي لي عن التاريخ ألعريق للجزائر والنيجر، وخاصة في فترة ألسبيعنات والثمانينات ألميلادية وما يليها إبّان رئاسة بومدين و بن جديد في ألجزائر، وسيني كونتشي و ديوري هاماني في النيجر، وحكى لي أيضاً عن عائلته وعاداتهم ألأمازيغية، وعن تنقلاته بين الدول الإفريقية إلى أن أستقر به ألمُقام في السعودية. لامستُ في عينيه الحنين والشوق إلى تلك الحقبة ألزمنية، كان يحكي لي بكل حب وكأنه يحكي لحفيده، لقد كان هذا الرجل موسوعة تاريخية بحق!
مضت نصف ساعة وربما أكثر .. مرة الوقتُ سريعاً ونحن نتجاذبُ أطراف الحديث في المحل! حتى صاحب المحل ظل يستمع إلينا والإبتسامة لاتفارق مُحياه، ولسان حاله يقول: يا للغرابة.! كيف لغريبين يلتقيان هكذا في ساعةٍ غريبة، في مكانٍ غريب، ويتحادثانِ كل هذا الوقت!؟
تعجبتُ أنا أيضاً، ثم تذكرت قوله صلى الله عليه وسلم: الأرواح جنودٌ مجندة فما تعارف منها أئتلف وما تناكر منها أختلف.!
كنتُ كمن يعرفه منذ زمنٍ بعيد، رغم فارق السن بيننا، رغم ألتجاعيد، ورغم ألشيب على رأسه، إلا أنني أحببت روحه وشعرتُ أن روحي التقت بروحه. تمنيتُ لو أن الزمن توقف لبُرهةٍ، تمنيت لو أن بإمكاني أن قبض على اللحظات السعيدة، تمنيتُ.. ولكن أدركتُ أن الرحيل سنة ألحياة!..
ودعتُ ألعم محمد، ثم أستأذنته لإلتقاط صورة فوتوغرافية، لأريها لأمي أولاً، ولأخلدها كذكرى لا تنسى ثانياً.!
ختاماً:
إن ألذين نلتقي بهم بلا موعد ويتركونَ فينا أثراً عظيماً باقونَ وإن رحلوا...
التعليقات 2
2 pings
سمر القرني
19/01/2023 في 9:00 ص[3] رابط التعليق
استمتعت وأنا أقرأ المقال أو القصة وما فيها من عبر. فعلا هناك لحظات نلتقي فيها بأشخاص ويبقى أثرهم مدى الدهر.
شكرا لقلمك الجميل.
(0)
(0)
ضاد العربية
24/05/2023 في 8:43 م[3] رابط التعليق
أنبهرت جدً بطريقة صياغتك لتلك الصدفة الجملية التي جمعتكم جدً أستمتعت وناه أقرأ حرفًا تلو الآخر دُون ملل مع مزيجًا من خيالي لكِ أستشعر تلك الحظة وبما شُعرت بها أنت أيضًا نعم إنه لشيء رائعًا جدً أتمنى أن أتصادف يومًا ما بمن تتلاقىٰ أرواحنا قبل أن ننطق حرفًا أهنييك حسن👏🏽✨.
(0)
(0)