ليس كل من قال أفاد،
ولا كل من تحدث نفع،
ما كل من انهمر
سيلا أنبت كلأً وأجاد ،
وليس كلّ كلامٍ كلاما.
كثيرون يكتبون نصوصا مكررة..
عبارات معادة ..
ألفاظا تشبعت مللا..
وصايا قُتلت تنظيرا.
ساد هرجٌ ومرج في سوق الكتابة، فكثر الكتّاب وانحسرت الجودة، صاحب الإبداع يتأوه وجعا مما يرى ويقرأ من حثالة النصوص وضحالتها في عصر كثرت فيه البضاعة وفاضت معه الرداءة.
كتّاب المقال على أنماط خمسة:
نمط يكتب مقالا بسيطا متواضع الأسلوب مباشر الغرض، ضعيف المستوى لغة ومبنى هزيل الأركان صياغة ومعنى .
آخر يكتب مقالا طيب المحتوى نبيل الأفكار لكن بالمضمون ذاته الذي استهلك بحثا ومن ذات الزاوية التي فرغ منها آخرون وبألفاظ مكررة وعبارات تقليدية لا إبداع فيها ولا جِدّة.
ونمط ثالث يكتب مقالا جيدا حسنا ولكنه يظل يدور في مضمار المعهود ما بين الواقعية والخيال .
أما النمط الرابع فكاتب مبدع يكتب قطعة جميلة تتسم بالحسن والبراعة.
ومع كل نمط من هؤلاء يقل عدد المجيدين فكتاب المقال الهزيل غثاء كغثاء السيل ثم وبعلاقة عكسية كلما زادت جودة المقال قل عدد المبدعين فيه.
وهناك نمط إضافي تقوده قلة من صانعين ويروده ندرة من مبدعين ، يسوق فكرا عتيقا لكن بزوايا غير مسبوقة وأسلوب يفغر الشفاه إدهاشا .
إذ أنه يخرج تحفة فنية متكاملة الأركان من محتوى بديع وصياغة فريدة وأسلوب متفرد وتحليل مبتكر وقالب يرفل في عبقرية البيان العربي، فاللفظ مقنن في تناغم مع سمو المعنى، والسياق يموج تيها بين بحور البديع وجمال المبنى، والفكر المتقد والحِكم المدهشة والأغراض العميقة وفي مجالات عدة مابين حكمة ومعلومة وخبر وزينة أدبية.
يقرؤه فقير التميز فلا يدرك قاعه، ويتجرعه سائغا ذو الذائقة والوعي فيجده سلسبيلا، خمرٌ حلالٌ تناوله ، زلالٌ لشاربه، يخرجه من سحارة محفوظاته الثمينة كجوهرة يمتع نظره بوهجها بين الفينة والفينة، ويتلذذ بقرائتها نصوصا خالدة لينتفع ويستمتع.
وهذا النمط قلة القلة وندرة الندرة .
ألا إن هناك نمط سادس، يتزعم النمط الأخير ويترأسه.
فلكٌ يسكنه كوكب دري واحد، تسوسه امرأة ذات زخم وتعدد، تكتب نصا فينعكس وهجا درّي الوضاءة، لا يدانيها نجم ولا يباريها تابع
من قمر، فالحرف ينيخ ركابه لتمتطيه والوهج يخفت حبا وكرامة لتذكيه بنفث سحرٍ يدهش هاروت بلوغا ويربك ماروت سطوعا، مُشعلا فتيل الإمتاع الأدبي والفكري.
جمهور هذه الأخيرة ندرة، ومدركو أطايب نضير مقالها قلة، فالثلة يتبعون السهل الغث، والسمين يتطلب نخبة تعي وتفرز العطور وفق عبق زهورها، وهؤلاء على قلتهم صفوة مُتخِمة تجزئ المائة منهم عن ألفِ ألف .
إن لم تحدس كينونتها فانظر خاتمة هذا المقال،
إذ تُذيّل باسمها هذه الجمانة التي تكشف خفوت الباهت من نتاج الأنماط الأخرى، فالأبلج أغرٌ يأتلق والأدهم أسحمٌ لا يكاد يُرى إعتاما وغورا.
وقد ينتقد أحدهم تباهينا هذا ويعده نرجسية وغرورا، لكن معاذ الله فالفخر لأهل الفخر بدواعي فخرهم ليس كبرا ممقوتا، بل إحقاقا وإنصافا وقدرا مستحقا.