أكد أ.د. عباس صالح طاشكندي رئيس تحرير موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهو أحد الباحثين المميزين الذين أوقفوا حياتهم العلمية والأكاديمية من أجل الحرمين الشريفين والبحث في تاريخ وآثار المدينتين المقدستين: مكة المكرمة والمدينة المنورة، أن بينالي الفنون الإسلامية الذي سيتم إطلاقه في مدينة جدة يوم الأحد 22 يناير الجاري ويستمر لمدة 3 شهور هو تجربة حضارية تتناغم مع التحولات الكبرى في المملكة التي تسير وفق خريطة الطريق التي رسمتها رؤية السعودية 2030.
وقال: إن تنظيم هذا البينالي حتى لو تم الاستعانة فيه بخبراء من الخارج إنما يرتبط نجاحه بقدرتنا نحن على توظيف هذا الحدث الهام لتقديم أنفسنا للعالم كدولة متقدمة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتحرص على استثمار إرثها التاريخي لتعزيز صورتها المعاصرة، من خلال اقامة مثل هذه المعارض لتحقيق أهدافها وإيصال رسالتها للعالم كله، والتعريف بها وبحضارتها، خاصة وأن بلادنا تملك من المرتكزات القوية والممكِّنات (الجيوسياسية) التي تدعم تلك التوجهات بدءاً بعمقها التاريخي وموقعها الجغرافي وما حباها الله به من ثروات وفيرة.
وتطرق الأستاذ الدكتور طاشكندي خلال الحوار إلى عدد من المحاور التي تناول فيها عدداً من المواضيع البحثية الهامة، وكان أولها وقوفه على الفرق بين مفهومي العمارة والتشييد أو الإنشاء، وشروط مَن يعمل بالعمارة في المواقع المقدسة، مستعرضاً أبرز الأحداث التاريخية في مكة المكرمة منذ تنظيمات قصي بن كلاب فيها، كما تطرق الى قصة العمود الخشبي الذي سيتم عرضه في بينالي الفنون الإسلامية بجدة، موضحاً أنه أحد الأعمدة الثلاثة التي وضعها عبد الله بن الزبير للكعبة (أعمدة عبد الله بن الزبير). وتناول أ.د. طاشكندي التحولات التاريخية المختلفة التي لامست عمارة الحرم المكي، مُقدماً توصيفاً دقيقاً للكعبة المشرفة على مختلف مراحلها التاريخية، وبيَّن أن الروايات الإخبارية تجنح الى الأساطير وأن الروايات التوثيقية قليلة جداً، مدللاً على ذلك بالعديد من الأمثلة.
كما تناول د. طاشكندي العديد من المسائل والقضايا الأخرى التي تطلعون عليها في نص الحوار التالي:
بينالي الفنون الإسلامية: الماضي والحاضر
تحمل النسخة الأولى من بينالي الفنون الإسلامية في جدة الذي تنظمه مؤسسة بينالي الدرعية الكثير من الدلالات.. فكيف تقرأون هذا الحدث؟
هذا المعرض بكل معطياته يشكل جسراً بين الماضي والحاضر ويؤصّل لمرحلة تاريخية في التطور الثقافي السعودي بكل ما يضمه من مقتنيات وقطع أثرية ذات قيمة عالية.
ولعل مسمى المعرض (أول بيت) أضفى بعداً دينياً عليه لأنه يتناغم مع القيمة التاريخية للمدينتين المقدستين، إضافة الى قيمته المضافة التي تتجسد في الالتقاء الحضاري والثقافي من خلال تعدد مشارب زائريه والمشاركين فيه بكل ما يترتب على ذلك من إبراز التنمية الشاملة للفنون الإسلامية.
إن تنظيم هذا البينالي حتى لو تم الاستعانة فيه بخبراء من الخارج إنما يرتبط نجاحه بقدرتنا نحن على توظيف هذا الحدث الهام لتقديم أنفسنا للعالم كدولة متقدمة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتحرص على استثمار إرثها التاريخي لتعزيز صورتها المعاصرة، من خلال توظيف مثل هذه المعارض لتحقيق أهدافها وإيصال رسالتها للعالم كله، والتعريف بها وبحضارتها، خاصة وأن بلادنا تملك من المرتكزات القوية والممكِّنات (الجيوسياسية) التي تدعم تلك التوجهات بدءاً بعمقها التاريخي وموقعها الجغرافي وما حباها الله به من ثروات وفيرة.
بين العِمارة والتشييد
يخلط البعض بين مفهومي العمارة والتشييد (الإنشاء).. فهل تلقون الضوء على كل واحد منهما من خلال ما سبق أن قدمتموه من طرح في هذا الجانب خاصة حين يتعلق الأمر بالحديث عن عمارة الحرم المكي والكعبة الشريفة؟
تبرز أهمية الوقوف على الفرق بين العمارة والانشاء (التشييد) خاصة عندما يتعلق الأمر بالمواقع المقدسة ذات الحساسية التي تحتاج الى مختلف الآراء. ولنأخذ الكعبة مثالاً:
فالعِماري في هذه المواقع المقدسة لا بد أن يعتمد في عمله على المؤرخ، والفقيه والجيولوجي والمحدِّث من أجل القيام بعمله على أتم وجه.
وحتى نقف على العمق التاريخي لأهمية التفريق بين المفهومين، جدير بنا أن نقرأ شيئاً من التاريخ عن عمارة مكة الكرمة وتخطيطها.
فبعد جرهم وخزاعة في العصر الجاهلي، جاء قصي بن كلاب وطبّق مفهوم (تخطيط المدن) بتقسيم مكة من خلال توزيع القبائل معتمداً على فكرة الرِّباع: جنوب مكة وأسفل مكة (المسفلة)، وأعلى مكة (المعلاة والأحياء التي قبلها) وذلك حسب المهن، فوجد أن بني جُمح عملهم في الدباغة، فوضعهم في (الجنوب) حتى تبتعد روائح مهنهم عن الحرم، أما بنو هاشم ففي أعلى مكة لريادتهم السلالة القرشية وخدمتهم للوفود وإكرامهم للضيوف.
وقد عمل بنو عبد مناف وعبد الدار بأعمال الحج كالسقاية والرفادة.
نمط البناء الدائري في مكة
لقد فرض قُصي بن كلاب أول نمط للبناء في مكة المكرمة بالشكل الدائري لأن الكعبة مربعة من الناحية الثقافية في التخطيط، وكان قصي لا يريد أن يبني الناس على شاكلة الكعبة.
من هنا ندلف الى موضوع العمارة في مكة والحرم، حيث إن العِمَاري يستمد رأيه من الفقيه، والمؤرخ، لأن المكان مقدس.
فالبيت الحرام بُني عدة مرات كان آخرها بناء عبد الله بن الزبير في العهد الإسلامي، ثم عُمِّر عدة مرات وكان آخرها عمارة السلطان مراد خان الرابع، ثم ترميم الملك سعود وعمارة الملك فهد، وتوسعة الملك عبد الله يرحمهم الله.
فكل من يعمل بالعمارة لا بد أن يعي مثلاً: أن الأعمدة الثلاثة هي التي أدخلها عبد الله بن الزبير، وأن الفقهاء أدلوا برأيهم، حيث إن ابن الزبير أدخل الحِجر الى الكعبة، ثم جاء الحَجَّاج بن يوسف الثقفي وأخرج الحِجر وأعاد توزيع الأعمدة.
فالعماري يعتمد هنا على المؤرخ.
كما أن هناك قضايا فقهية دينية لا بد أن تدعم العماري بكل الآراء الفقهية، فمثلاً في استخدام المواد هناك مواد يَمنع الفقيه استخدامها لوجود نجس فيها ولا نستطيع أن نؤثر على الكعبة وهي مبنى مقدس.
فعلى سبيل المثال.. فإن داخل الكعبة كان مبنىً مصمتاً مغلقاً يحتاج الى تهوية، فاقترح البعض فتحات دائرية، فرفض الفقهاء لأن الرُّوح من الطيور قد تدخل وتموت ويتدنس داخل الكعبة.
إذن العِمَاري يستعين بكل هؤلاء، فهو مثلاً لا بد أن يعلم بأن الكعبة مبنية على (صخور معشّقة) لأنها فوق الماء، وهذا يفرض أشكالاً في البناء حتى لا تنهار، لذا يأتي هنا رأي الجيولوجي والمؤرخ والمحدِّث، حتى لا يبنيها بشكل مسطَّح فتنهار.
في عمارة الملك فهد يرحمه الله 1417هـ كان كل من يعمل على أي نقش يشترط أن يكون ملماً بكل هذه التفاصيل التاريخية.
وفي توسعة المسعى خلال فترة حكم الملك عبد الله يرحمه الله اختلف الفقهاء من هيئة العلماء حول قياس المسافة بين جبلي الصفا والمروة،
استناداً إلى تحديد مفهوم الجبل، أيكون القياس من القمة أم من القاعدة؟
حيث إن القاعدة تكون عادة كبيرة وواسعة ويستطيع المفتي أن يتصرف ليزداد التوسع.
فالعمارة احتاجت الى آراء متعددة من مختلف التخصصات حتى يستطيع (الشارع) استمداد المعلومات منهم.
هذا هو الفرق بين العمارة والإنشاء، خاصة في المواقع المقدسة ذات الحساسية التي تحتاج الى مختلف الآراء.
قصة العمود الخشبي
سيعرض في البينالي أحد الأعمدة الخشبية الخاصة بالكعبة (أعمدة عبد الله بن الزبير)، فما قصة هذا العامود الخشبي؟
الكعبة مبنية من دورين: الأرضي والأول، والثاني هو (المستودع بارتفاع 70 سم) كان مخصصاً لهدايا الكعبة، ويبدأ الدرج من باب التوبة فالأول والثاني، السطح.
وقد كانت الكعبة بدون سقف، لأنها بقيت على حالها إلى أن تم إعادة بنائها على يد قريش، فقد وقع حريق بالكعبة نتج عن محاولة سيدة تجمير الكعبة من الداخل، فأعادوا بناءها على الطريقة القديمة بدون سقف.
ولما أدخل عبد الله بن الزبير الحِجر بالكعبة صارت مستطيلة الشكل ومن الناحية الشمالية الغربية نصف دائرية، فاضطر أن يعمل 3 أعمدة (سُميت أعمدة عبد الله ابن الزبير) لعمل مستودع ثم يسقف الكعبة.
ولما جاء الحجاج بن يوسف الثقفي كتب الى الخليفة عبد الملك بن مروان ليُعلمه بما فعل ابن الزبير في بناء الكعبة وضم الحجر، فكتب إليه الخليفة أن يعيد الحجر كما كان عليه، فقام الحجّاج بإعادة بناء الكعبة على سابق عهدها، وأعاد توزيع أعمدة عبد الله بن الزبير الثلاثة وأبقى على السقف.
وفي عام 1039 هـ هُدمت الكعبة بسبب السيل الذي نتج عن الأمطار الغزيرة، فأمر السلطان مراد خان الرابع بإعادة بنائها وتجديد الأعمدة الخشبية مُبقياً إياها باسم أعمدة عبد الله بن الزبير.
وهكذا، فقد كانت تلك الأعمدة الخشبية تتآكل وتبلى مع الزمن، وفي كل إصلاح كان يتم تجديدها، وفي آخر تجديد في توسعة الملك فهد عام 1417هـ أمر يرحمه الله بعمل إصلاحات شاملة للكعبة، وتم جلب الخشب الكمبودي الأحمر القوي ووضعه بنفس مواصفات أعمدة عبد الله بن الزبير، مع وضع الحليات بين الألواح الخشبية والقيام بتعشيقها، انطلاقاً من حظر فقهي يمنع استخدام الرخام، ولم يبقَ من أعمدة عبد الله بن الزبير ما يُرمم ولكنها استُبدلت وبقيت باسمه، وقد تم حفظ بقايا قاعدة العمود وستُعرض -حسب علمي- في بينالي الفنون الإسلامية.
الأساطير في الروايات الإخبارية
هل ترون أن الصراعات المذهبية على مر التاريخ الإسلامي وصولاً الى الفكر الصحوي الذي انتشر في العديد من بلدان العالم الإسلامي، قد ساهمت في اختفاء العديد من المقتنيات والقطع الأثرية خاصة وأن كتب التاريخ تزخر بالروايات عن هذه القطع وأوصافها؟
لا بد أن نعلم أن كتب التاريخ مليئة بالروايات الإخبارية التي تجنح إلى الأساطير، أما الروايات التوثيقية فهي قليلة جداً في التاريخ الإسلامي، خذ مثلاً قصة أبرهة الأشرم الذي جاء من جهة تهامة الأعلى ونزل عند منطقة سميت لاحقا قبر أبي رغال، هذه رواية أساطير!!
فأبو رغال ذُكر في موضوع قوم صالح، وهو نفس الشخصية. وهذا يدلل على تغلغل الأساطير في روايات التاريخ الإخبارية.
ففي الكعبة كثير من المقتنيات التي جاءت في الروايات الإخبارية ولكنها غير موثَّقة.
أما المقتنيات الرسمية للكعبة فكانت لدى آل الشيبي، وقد استعانت الدول التي لها ولاية على مكة بها لإصلاح الكعبة مثل التمثال الذهبي المُهدى من ملك التبت والذي تم صهره واستخدامه للإصلاح.
وهناك مقتنيات نُهبت من حكام وولاة آخرين.
العُلا شاهد على التحول الفكري
كيف ترون كباحث متخصص في التاريخ الإسلامي أثر التحولات القائمة في المملكة وفق رؤية 2030 في خدمة الإرث التاريخي والمكانة العالمية للمملكة؟
لقد ساهمت هذه التحولات التي جاءت بها رؤية السعودية 2030 في إبراز الإرث التاريخي في قوالب معاصرة تعزز الحراك الثقافي والتلاقح الفكري والحوار الحضاري بما يدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية،
بعد أن تم وأد الفكر الصحوي الأحادي الذي عرقل التنمية في بلادنا عدة عقود واجتثاثه من جذوره منذ أن أعلنها سمو ولي العهد يحفظه الله بقوله: “لا عودة لزمن الصحوة”.. ليشكل يحفظه الله نموذجاً لقيادة تُهيكل الفكر، ورؤية ترسم طريق النجاح.
ولعل ما يحدث الآن في العلا على سبيل المثال يدلل على حجم التحول في الفكر بعد أن كانت منطقة مغلقة تُعتبر (منطقة عذاب)!! حسب ذلك الفكر الأحادي وكأن دخولها من المحظورات.
الان تغيرت العُلا في ظل الرؤية وصارت مقصداً للسياح ورافداً من روافد الدخل الذي يدفع النمو الاقتصادي ويعزز مكانة المملكة كوجهة عالمية سياحية رائدة.