يحتاج المرء إلى إرادة يواجه بها ما يحدث له من منغصات، فتدفعه إلى الأخذ بالسلوك الصحيح، ومغالبة ردود الفعل المتعجلة، وترى التفاوت بين الخلق واضحاً في هذه الصفة، ويبرز أخلاقيات وتصرفات كل إنسان ما يملكه من قوة إرادة في التحلي بتلك الأخلاقيات والتصرفات، وصدق الإرادة في مجابهة ما لا يصح من العادات ومعالجتها بما يزيلها ويحل محلها الطيب النافع، وليس من المعجز معالجة الإرادة عند المسلم حتى ترتقي إلى الأحسن دوماً، ففي شرعنا وعباداتنا خير منطلق.
رأى الحسن البصري يوماً رجلين يسب أحدهما الآخر، فقام المسبوب وهو يمسح العرق عن وجهه ويتلو (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)، فقال الحسن: لله دره، عقلها والله حين ضيعها الجاهلون.
ومن تفحص في التاريخ والسير وجد صوراً عظيمة لرجال طوعوا إرادتهم فيما بنى لهم مجداً وأثراً تعداهم إلى قرون بعدهم، ولن تعدم أمثلة من محيط مجتمعك لو نظرت، ولا خير في رأي سديد ما لم تدفعه إرادة ليأخذ حظه من الثبات والشموخ فيؤثر وينتج.
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة...
فإن فساد الرأي أن تترددا
ومن ضعف الارادة ينشأ الخوف والتراجع أمام العادات الاجتماعية التي تخالف القيم الايمانية والسلوك السوي، فتعطل بذلك كثير من الطاعات فيغدو المرء إمعة لا يستطيع أن يبدي رأياً ناهيك عن تنبيه، تاركاً الدفة لمن لا يحسن التوجيه.
وضعفاء الإرادة ضعفاء الرأي يتخففون من مسؤولية البحث عن الحق ورؤية طريقهم في الحياة، فيخوضون دون بصيرة وهدى.
وضعف الإرادة هو الذي يدفع على الخمول والاستسلام للأهواء، بل والسقوط في الرذائل، والاستدراج إلى براثن الشر. والإنسان السوي متميز في مجتمعه بصدق توجهه الطيب، وتحمله التبعات، والصبر عليها، مرتقياً بهمته ميسراً السبيل لمن بعده، وقد قيل: (إنما تفاوت الأمم بالهمم وليس بالصور).
فمن صحت إرادته ونضج عزمه ارتقى، ويبقى من هو دون ذلك محدود العطاء والأثر.
ومشتت العزمات ينفق عمره...
حيران لا ظفر ولا إخفاق
وكل منا عنده من الإرادة، بنسب متفاوتة، ما يحمله على طيب السلوك إذا أراد، مع تفاوت القدر الذي منحه الله لكل إنسان، والحاجة فقط إلى توجيهها إلى موضعها التي تجمل فيه، ولك أن تتفكر في بعض الحالات، مثل من يملك نفسه أمام من هم أعلى منه مكانة، أو من لهم سلطة عليه، أو تأثير يناله من جرائه أذى، ومن ثم يطلق لها العنان لتتعدى على ضعيف، أو من لا يترتب عليه منه مضرة، وقد اعتبر الحالة الأولى صبر، وكتم غيظ، وحلم واحترام، وما إلى ذلك من الصفات النبيلة التي لم تكن هي الدافع الحقيقي خلف سلوكه ذاك، وإلا لما تعداها إلى متناقضها مع من لا حول لهم ولا قوة، أو لا يتجاوز أثرهم إلى المحبوبات والرغبات، وخذ بعد ذلك من المبررات التي ليس لها من الحق نصيب.