مكابدة الليل فيها عناء كبير قطعه الواصلون بحب الله والتلذذ بمناجاته، فروضوا النفوس حتى طلبت الزيادة على الفرائض، فأخذوها بالعزائم فصار قيام الليل شغل طلاب الربانية، الذين وجدوا فيه حياة أخرى نهلوا منها الكثير، وهذه العبادة التي بدأت بها هذه الدعوة المباركة، صارت بعد ذلك واجبا ألزم القدوات به أنفسهم، لذا يقول محمد بن سيرين: لا بد من قيام الليل ولو بقدر حلب الشاة.
وقال الحسن البصري: والله لقد أدركت أقواما، لهم كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم، ولهم بدينهم أبصر بقلوبهم منكم بأبصاركم، ولهم بحسناتهم أشد خوفا أن ترد عليهم منكم لسيئاتكم أن تعاقبوا عليها، إذا جنّهم الليل فقيام على أطرافهم، يفترشون وجوههم، تجري دموعهم على خدودهم، يناجون ربهم في فكاك رقابهم.
بل وأصبح الفرح بالليل سجية للعابدين للخلوة مع الله عز وجل حين ينزل تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيصفّ العباد أقدامهم ويناجوا ربهم، مقتدين بنبيهم صلى الله عليه وسلم، الذي (كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه) حديث صحيح، متحرين ساعة الاستجابة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة) رواه مسلم
يا رجال الليل جدوا...
رب صوت لا يرد
لا يقوم الليل إلا...
من له عزم وجد
وحرصوا أن يورّثوا الأبناء ما غنموه، فكانوا يغرسون حب قيام الليل فيهم ويهيئونهم لمجاهدة النفس حتى تقبل على الطاعات، فعن معاوية بن قرة أن أباه كان يقول لبنيه إذا صلوا العشاء: يا بُنيّ ناموا لعل الله أن يرزقكم من الليل خيرا.
قال عطاء بن أبي رباح يصف قيام الليل: محياة للبدن، ونور في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البصر والأعضاء كلها، وإن الرجل إذا قام بالليل أصبح فرحا مسرورا، وإذا نام عن حزبه أصبح حزينا مكسور القلب، كأنه قد فقد شيئا، وقد فقد أعظم الأمور نفعا.
وكان ابن عباس يقول: من أحب أن يهوّن الله عليه الوقوف يوم القيامة، فليره الله في ظلمة الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.
فما كان، رحمه الله، لينصح الناس وينسى نفسه، فعمل بذلك راجيا رحمة ربه، فعن عبدالله بن أبي مليكة قال: صحبت ابن عباس، رضي الله عنهما، من مكة إلى المدينة، فكان إذا نزل قام شطر الليل، قال: فسأله أيوب: كيف كان قراءته...؟ قال: قرأ {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} فجعل يرتل ويكثر من ذاكم النشيج.
وعن حماد بن سلمة: قرأ ثابت بن أسلم البناني: {أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا} وهو يصلي صلاة الليل ينتحب ويرددها.
قال الشاعر :
منع القرآن بوعده ووعيده...
مقل العيون بليلها أن تهجعا
فهموا عن الملك الكريم كلامه...
فهما تذل له الرقاب وتخضعا