إن الله جل جلاله أرسل رسله بالحق، مبشرين بنعيم مقيم، ومنذرين من عذاب أليم، مبلغين الرسالة والدين، فبلغ كل رسول كريم، ما أمر به من العلي العظيم، ثم ختمت الرسائل السماوية المقدسة، بما أنزل في مكة المكرمة، على أشرف الرسل المطهرة، فأكمل الله لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، قائلا في الفرقان { إن الدين عند الله الإسلام }، فهو أفضل دين، بلغه خير نبي، أنزل عليه أشرف كتاب، في أطهر بلد، لخير أمة.
ولأن ملة الإسلام هي أسمى الملل، كان لابد أن تأتي بنظام يحفظ به نظام الأمة، يزجر النفوس الشريرة، ويطمئن النفوس البريئة، ينشر الأمن، ويقيم العدل، يحاسب الجاني، ويميت رغبة الإنتقام، فكانت الحدود الشرعية في الإسلام.
لقد جاء ديننا الحنيف بكل وسيلة تحفظ طمأنينة المجتمع واستقراره، فأمر بإقامة الحد على من ثبت بحقه ارتكاب أي ذنب يستوجب ذلك الحد، حاصرا الحدود في سبعة جرائم، أقرت في الكتاب العزيز، وفي السنة المشرفة، وهي /
حد الردة _ حد الزنا _ حد اللواط _ حد الحرابة _ حد شرب الخمر _ حد القذف _ حد السرقة.
ووضع لكل جريمة من هذه الجرائم السبعة عقوبة مقدرة، تنفذ عند ثبوت ارتكاب الجريمة حسب الشروط التي حددها الشارع.
فحد الردة هو القتل، وحد الزنا للمحصن الرجم، ولغير المحصن الجلد مائة والتغريب عام، وحد اللواط القتل، مع اختلاف عند الفقهاء في كيفية تنفيذه، وحد الحرابة إما القتل، أو الصلب، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، يختار الحاكم إحداها تناسبا مع الذنب، وحد شرب الخمر هو الجلد إما أربعين أو ثمانين، نظرا لاختلاف الفقهاء في ذلك حسب الأدلة الواردة، وحد القذف الجلد ثمانون، وأما حد السرقة فهو قطع اليد اليمنى من مفصل الكف، تطبيقا للنص الوارد في سورة "المائدة".
ومن المعلوم أن تشريع هذه الحدود له حكم سامية جليلة، فهي تطهير للمذنب وكفارة له، وحماية للمجتمع وأمان له، وردع لمن تسول له نفسه الشر وتخويف له، كما أن لكل حد من هذه الحدود الشرعية حكم خاصة، معلومة غير مجهولة، لا تخفى على العاقل الحصيف.
وقد يخلط البعض بين جرائم "الحدود"، وجرائم "القصاص"، وجرائم "التعزير"، وتوضيحا للفرق بين هذه الثلاثة الأقسام، فإن "الحدود" هي عقوبات مقدرة لجرائم محددة شرعا حقا لله جل وعلا، وأما "القصاص" فهو عقوبة مقدرة شرعا حقا للبشر، بخلاف "التعزير" الذي هو غير مقدر العقوبة، وبذلك يتضح الإختلاف جليا بين تلك الأقسام الثلاثة.
إن من رحمة الله جل في علاه بعباده هو أمره بإقامة تلك الحدود التي لم تشرع بغرض الإنتقام والعداوة، وإنما شرعت لإقامة العدل والحماية، كما أن رحمة ربنا الرحمن شملت الجاني والمجرم بواسع ظلها، فقد قال نبي الرحمة عليه من الرحيم أزكى الصلاة وأتم التسليم { ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة }، فأي رحمة أوسع من هذه الرحمة، وأي إشفاق يضاهي هذا الإشفاق ؟!
وهذا النظام الإلهي المتكامل في الردع والعقوبة، والقسط والسكينة، ليس متعلقا بزمان معين، ولا بمكان محدد، فتنفيذه على الوجه الذي جاءت به النصوص الحكيمة، واجب على ولاة أمر المسلمين، بلا تهاون ولا ظلم، فشريعة الإسلام الجليلة صالحة لكل زمان ومكان، كاملة بلا نقصان.
قال المهيمن المتين في الذكر المبين { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }، وعليه فإن الخالق لا يمكن أن يرضى لخلقه مالا يصلح لهم، بل يؤمرهم بما يعود عليهم بالنفع في هذه الدنيا الفانية، وفي دار القرار الباقية.