يتمنى كل فرد مسلم في هذه الأمة المعصومة أن يكون مجتمعه مثاليا، وساميا، وأنموذجا للمجتمعات الأخرى، ولكن المحقق المرير أن المجتمعات المسلمة في هذا الزمان أصبحت غثاء كغثاء السيل، كما وصفها خير البرية عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فمع وجود جميع مقومات النهضة، والنمو، والتقدم، والإنطلاق لدى دول، وشعوب العالم المسلم، إلا أن هذه الأمة تخطو خطوة إلى الوراء شيئا فشيئا، تقلد الغير في كل ما هو مشين، وتخالفه في كل ما هو مفيد، تبدلت لديها المفاهيم، فأصبح الرشد غي، والغي رشد، وصار المحنك بليد، والبليد محنك، وأضحى العيب مكرمة يفاخر بها.
فهل سألنا أنفسنا لماذا بلغت بمجتمعاتنا الأحوال إلى ما هي فيه الآن من الإقعنساس ؟!
ما هي الأسباب التي أسقطت المجتمعات المسلمة في وحل الرجعية ؟!
وكيف نستطيع أن نبني مجتمعا راقيا وحضارة رائدة ؟!
قبل أن نذكر السبل المخرجة من هذا النفق المظلم، الذي تعيش في جوفه أمتنا الغراء، ينبغي أن نوضح المقصود بالحضارة، فقد عيينت الحضارة بأنها /
مظاهر الرقي الأخلاقي، والعلمي، والفني، والأدبي، والإجتماعي في مجتمع من المجتمعات.
وقد يخطئ الكثيرون في فهمهم للحضارة، فالحضارة ليست تشييدا للقصور، والحدائق المعلقة، والمباني الشاهقة، وليست إِئتساء بالمجتمعات الساقطة في هبوطها، وليست انحلالا وفسادا تحت مسميات أخرى، بل هي صياغة للفرد المسلم، وفق المنهج الإلهي العظيم، الذي يؤسس صرح بناء الأمة، فقبل أن نبني الإيوان، علينا أن نبني الإنسان، وقد قيل :
ليس لأمة ترجو نهوضا
إذا فسدت خلائقها قيام
تقوم حضارة و تزول أخرى
وليس لفاسد منها دوام
وقد بلغت الحضارة الإنسانية قنتها وأوجها في عصر النبي العاقب محمد صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين المهديين رضوان الله عليهم، فذلك المجتمع النقي تربى على الوحي المنزل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، عاملا بنصوصه الشريفة، غير حائد عنها، فكانت العاقبة أن عز وبز وساد، وسيظل ذلك الجيل هو الأسوة المثالية لكل مجتمع يريد الإزدهار، فلقد بدأت بعده زاوية الإنحراف تنفرج تدريجيا.
ولنا في حضارة المسلمين في بلاد الأندلس خير غرار، فبعد ثمانية قرون من الملك والسلطة، والعز والرفعة، أفلت تلك الحضارة، لما أعرض المسلمون هناك عن الرشاد والسداد.
إن المتأمل في قيام الحضارات وفي سقوطها، وفي تقدم المجتمعات وفي رجوعها، يرى أن ذلك آئب إلى ركائز ثلاث، إن نحن عملنا على صلاحها علونا وسمونا، وإن أفسدناها وأضعناها هبطنا وسقطنا.
أولى هذه الأسس هو "إصلاح الأسرة"، فالأسرة هي أولى لبنات المجتمع، ولن يستقيم إنبار لم تستقم لبناته، فصلاح الأسر المسلمة صلاح للمجتمع المسلم، وعلى النقيض فإن فساد الأسر يعني انقعاش المجتمع، وصلاح الأسرة يستجدى بصلاح أفرادها، فيجب على كل فرد في الأسرة المسلمة أن يصلح من نفسه، ويأمر أسرته بالصلاح، وينهاهم عن الطلاح.
وأجل فرد في إصلاح الأسرة هي الأم، فإن خلف كل أسرة صالحة، مربية أجيال أبية، ومتى اضمحل دور الأم الشامخة، صعب رتق تلك الثلمة.
وثاني هذه الركائز هو "إصلاح التعليم"، فقد أصيب التعليم كما أصيبت هذه الأمة بانخراق وضياع، وطال التخلف مؤسساته الرسمية، وغير الرسمية في العالم المسلم، ومعلوم أن التعليم هو عامل تليد في نهضة أي مجتمع، ولن تحقق الأمة التنمية والإنماء مالم تستند إلى نظام تعليمي صالح، وناجح.
وصلاح التعليم يتحقق أولا بصلاح المعلم، وقد ذكر في الأثر الكريم أن جميع مخلوقات البارئ ليصلون على معلم الناس الخير، كما يجب على المجتمع سواء على الصعيد الشعبي أو على الصعيد القيادي، إنزال المعلم منزلته التي يستحق، واحترامه وإجلاله لما هو جدير به، فقد قال أحد الشعراء في الثناء على المعلم بما هو حقيق له /
إن المعلم قدوة في
الناس مرفوع الجناب
والنشء يذكر فضله
حتى يوارى في التراب
والمستبصر في الأمم المتقدمة على أمة القرآن، يجد أن أثرة المعلم لديهم في بروز لا تدن.
وثالث تلك العوامل هو "إصلاح الإعلام"، وهو أكثر الأعمدة الثلاث تمزقا، وانصداعا في عالمنا المسلم، وتأسنه تأسن لما سبقه من الأركان، فإذا غابت القدوة الحسنة عن وسائل الإعلام بجميع أشكالها، وتمكن الدعاة على أبواب جهنم من كل منافذها، فسدت الأسرة المتلقية لهذا السم الزعاف، وفسد المدرس تبعا لنتر الأسرة، فالإعلام بخيره، وضيره يؤثر في الصغار قبل الكبار، وهو سلاح ذو حدين، كما أن الإعلام في مجتمع ما يعكس صورة ذلك المجتمع أمام غيره من المجتمعات.
لذا فإنه يتوجب على أصحاب القرار أن يعيدوا صياغة المؤسسات الإعلامية، في العالم المسلم، وفق شرعة ومنهاج العلي الكبير، ذلك السبيل الذي تسلكه المجتمعات الراقية، وتقوم به الحضارات الباهرة.
تلك الأسس المتضافرة الثلاث، هي ركائز بناء المجتمع السامي إن سعينا في إصلاحها، كما أنها معول التقويض إن غفلنا أو تغافلنا عن تقويمها.
فلعله أسرج الجواد لراكبه، ومهد الصراط لمن يبني المنار به.
التعليقات 1
1 pings
العتيبي
26/09/2019 في 11:05 ص[3] رابط التعليق
محمد القرني كاتب كبير و لديه مخرجات و مدخلات جداً جميله يكتب في الموضوع بذمه وضمير وكان الموضوع يخصه شخصياً شرف وفخر لي ان اكون احد اصدقاك وانقى من عرفت في هذه الدنيا ❤️.
(0)
(1)