“نشأ نيوتن يتيم الأب. وتربّى في عائلة ثرية ذات جذور زراعية، ومن الواضح أن طفولته لم تكن سعيدة حيث تزوّجت أمه ولم يبلغ العامين، وترعرع في كنف جدّه لأمه.
أما دراسة نيوتن الأولى فلم تكن تقاريرها مشجّعة، وقد وصفته بعضها بأنه (كسول) و(غير مهتم)، ولذا أخرجته أمه من المدرسة لكي يشرف على إدارة ممتلكاتها، ولكنه سرعان ما أثبت فشله في ذلك المضمار. وتشير الدلائل إلى أن دراسة نيوتن الجامعية لم تكن متميّزة، ولكنه استطاع أن يجتاز امتحاناته ويحصل على درجة البكالوريوس في عام 1665م”.
هذا ما ذكره متتبعو سير الأعلام، وسوف ننظر لنيوتن وعبقريته من خلال الحروف التالية:
أ.سقوط التفاحة: لقد سقطت تلك التفاحة على رأس هذا العالم ليكتب لها التاريخ الخلود، ويعلو صيتها على صاحبها أحيانًا، هذا رغم أسطوريتها وعدم ثبتها تاريخيًا. ولكنها مع ذلك لا تخلو من فائدة. لقد سألت نفسي مرارًا، كم من الناس شهدوا في حياتهم أمورًا تعتبر (عادية) مألوفة كسقوط التفاحة مثلًا بالنسبة لنيوتن؟ فلماذا لم ينتفعوا من ذلك في اكتشاف حقائق جديدة كما انتفع منها نيوتن؟ وحتى نيوتن نفسه هل هي المرة الأولى التي يرى فيها تفاحة تسقط أمامه؟
يبدو أن الجواب البدهي سيكون بالنفي. خاصة إذا علمنا مكان إقامته. إذن لماذا هذه المرة قاده سقوط التفاحة على افتراض صحتها لاكتشاف باهر؟ يبدو أن لدى نيوتن هذه المرة استعداد نفسي وفكري من نوع آخر، جعله ينظر لسقوط التفاحة بنظرة مغايرة. فهو بعد أن ملك عليه موضوع الجاذبية والتحضير له لبه وعقله، بدأت تتكون لديه نظرات مختلفة تتوافق مع ما يفكر به، وتتواءم مع استعداده النفسي. فأنت عندما تقرأ كتابًا تمر عليه بأكمله قد لا تستوقفك بعض الجوانب الرائعة فيه، ولكنك ما إن تريد أن تكتب بحثًا أومقالًا بعد زمن وترجع لهذا الكتاب إلا وترى فيها من الغنى والثراء ما الله به عليم. فلماذا نظرتَ إلى الكتاب بهذه النظرة التي تختلف عن نظرتك الأولى؟ ولعل الجواب كما قلنا يكمن في استعدادك النفسي والفكري: فأنت الآن تنظر في الكتاب بحثًا عن أفكار معينة ومحددة. وهكذا دوليك. فإذا تبدلت الفكرة ستنظر في كتابك بنظرة ثالثة حسب استعدادك النفسي والفكري.
ب.الذكاء والعبقرية: يبدو أن الذكاء غير العبقرية، فحدة الذكاء قد تكون إحدى مكونات العبقرية وقد لا تكون بالضرورة. وقد أثبت بعض الدراسات النفسية ضعف العلاقة بين العبقري وحاد الذكاء. ولو أخذنا عددًا كبيرًا من الأذكياء فقد نجد من بينهم عبقريًا واحدًا وقد لا نجد مع الأسف الشديد. والخلط بين الذكاء والعبقرية من الأخطاء المتربصة بكثير من الناس في القديم والحديث. ولعل ما وُصف به (أديسون) من قبل أهله يقف شاهدًا على صحة ما ذهبنا إليه ؛ فقد وسموه بما يمكن أن نسميه الآن (التخلف العقلي) إن جاز التعبير.
يقول عالم الاجتماع الشهير علي الوردي: “إن الفرق بين العباقرة وغيرهم من الناس العاديين ليس مرجعه إلى صفة أو موهبة فطرية في العقل، بل إلى الموضوعات التي يوجهون إليها هممهم، وإلى درجة التركيز التي يسعهم أن يبلغوها”.
ج. من “المحنة” إلى “المنحة”: لقد نجح نيوتن في استثمار “محنته” النفسية التي رضته وهو صغير، فقد ولد يتيمًا ثم تزوجت أمه وتركته وحيدًا عند جده. ولم تكن علاقته مع جده على ما يرام وغيرها من مصاعب الدراسة، وفشله في إدارة أملاك والدته، والالتحاق بالجامعة في سن متقدمة. لقد نجح هذا العبقري في تحويل محنته إلى منحة خلاقة. وهكذا معظم العباقرة والمبدعين تقودهم “محنتهم” إلى فجر جديد ونور جديد.
د. «سجّل نيوتن أفكاره في تلك الفترة في دفتر سمّاه (أسئـلة فلسفية محدّدة)، وكتب في بداية الدفتر: (أفـلاطون صديقي، وأرسطو صديقي، ولكن أفضل أصدقائي هو الحقيقة)”.
ألا تثير هذه العبارة حماستنا لنشجع أبناءنا على تدوين أفكارهم في «سجل خاص بهم” فخيال الطفل جامح، ويزخر بوفرة الأفكار.، ثم يأتي دورنا لاحقًا في تهذيب هذه الأفكار، وترتيبها..
هـ. وتشير الدلائل إلى أن دراسة نيوتن الجامعية لم تكن متميّزة، ولكنه استطاع أن يجتاز امتحاناته ويحصل على درجة البكالوريوس في عام 1665م». أضف إلى ذلك أن تقارير دراسته فيما دون الجامعة كانت غير مشجعة. بل وصفته بالتراخي والكسل؛ إذن نحن أمام عبقري (كسول) إن صح التعبير، وقد لا يرضى البعض بهذا القول. فهم قد اعتادوا أن يروا العبقري مجتهدًا دؤوبًا. وما علموا أن حياة العبقري هي عبارة عن مزيج من الكسل والاجتهاد.
وعلى ذلك فلا نبتئس من “الكسالى” إن صح التعبير، فقد يكون وراء الأكمة ما وراءها.