إن ثقافة التطوع والعمل الخيري صفة ملازمة للمجتمع السعودي ومتجذرة في نفوسهم، وقد أخذت أشكالاً متعددة حيث بدأت بصورة فردية ثم تطورت إلى مؤسسات لها هياكلها الإدارية وخططها الاستراتيجية لتشمل كل جوانب الحياة التعليمية منها، والصحية، والتربوية، والاجتماعية، والاقتصادية وغيرها من أعمال البر، وتأتي هذه الأعمال والجهود الخيرة انطلاقاً من قيم الشريعة الإسلامية التي تدعو إلى التكافل والتراحم بين أفراده ففي الحديث (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
والعمل الخيري عرفته السعودية منذ عهد الملك المؤسس الملك عبد العزيز طيب الله ثراه والذي أسس دولته في ظروف صعبة حيث كان يغلب عليها طابع البداوة و تفتقد إلى المقومات الاقتصادية والاجتماعية، ولهذا فقد اتسمت الأعمال الخيرية في عهده بالبساطة والواقعية التي تنسجم مع طبيعة المجتمع وعاداته وتقاليده، ولما كانت الحاجة ماسة لإشباع حاجة الناس في ذلك الوقت وضع الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- نظامًا لتوزيع الصدقات والإعانات في عام 1347هـ/1928م، كما تم تأسيس لجنة الصدقات العليا في مكة المكرمة عام (1348 هـ - 1929 م) لتنظيم عملية جمع الصدقات والزكوات من الأغنياء، ومن ثم تنظيم عملية توزيعها على الفقراء، كما تم افتتاح دار لرعاية الأيتام في المدينة المنورة عام (1352هـ - 1934 م)، وكذلك افتتاح دار للعجزة والمنقطعين عام (1354 هـ - 1936 م) بمكة المكرمة، وأعقبها افتتاح دار أخرى لرعاية الأيتام بمكة المكرمة عام (1355هـ - 1937م)، وأخرى للأيتام في الرياض (1357هـ - 1939 م).
وعندما بدأت عملية التنمية بعد اكتشاف البترول منذ عام (1380هـ - 1960م) صدر الأمر الملكي رقم 122 بإنشاء وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، والتي انبثقت منها وكالة الوزارة للشؤون الاجتماعية التي كان من اهتمامها رسم السياسات العامة للعمل الاجتماعي وإنشاء جمعيات ذات طابع اجتماعي في المملكة، وإصدار الأنظمة والتشريعات التي تنظم عملها وتثقيف المجتمع بأهميتها، والحث كذلك على تكوين جمعيات أهلية ومؤسسات مانحة، وفي عام 1384هـ أصدرت الوزارة نظام الجمعيات والمؤسسات الاجتماعية الأهلية، كما عملت على وضع اللوائح الخاصة بتأسيس الجمعيات الخيرية وطرق تسجيلها رسمياً ولوائح المساعدات المالية والمعنوية لها من قبل الحكومة، وكذلك ضوابط وآليات دعمها، وفي عام 1395هـ صدرت لائحة تقديم الإعانات للجمعيات الخيرية من قبل الوزارة للمساهمة في مساعدتها، كما أصدرت الوزارة لائحة تنظيم عملية التبرعات عام 1396هـ.
وفي سياق التطور الذي لحق بالوزارة تم تعديل مسماها إلى وزارة العمل والتنمية الاجتماعية، وأصبح للوزارة رؤية تطويرية للجمعيات الخيرية التي تنضم تحت قياداتها، من خلال تنظيم الدورات التدريبية، والتأهيلية بما يحقق العمل المؤسسي في تلك الجمعيات وبما يضمن اتباعها لسياسة الحوكمة والشفافية التي تعزز الثقة بين الداعمين والجمعيات من ناحية، وتوسيع دائرة خدماتها من ناحية أخرى.
وقد تطور العمل الخيري، وبلغ شأواً عظيماً ولا سيما في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود وولي عهده الأمين محمد ين سلمان حفظهما الله، حيث عززت رؤية 2030 من قيمة العمل الخيري، ووضعت خطة لزيادة عدد المتطوعين من 11 ألف متطوع إلى مليون متطوع بحلول عام 2030، بل دعت لتطوير أداء الجمعيات الخيرية حتى يكون لها دور مهم في الناتج المحلي ورفع نسبته من أقل من 1% إلى 5%.
هذا وقد بلغ عدد الجمعيات المنضوية تحت قيادة الوزارة أكثر من 700 جمعية مسجلة رسمياً وتعمل بإشراف ومراقبة من الوزارة وتتنوع هذه الجمعيات ما بين تعليمية وفنية تعاونية وتدريبية وصحية وتأهيلية وتربوية وغيرها .
ومن أبرز الجمعيات التي لديها جهود تذكر فتشكر، وتمكنت أن تقدم خدماتها بمهنية وحرفية: جمعية عناية، وهي جمعية تهتم بصحة المجتمع ولها جهود كبيرة في تقديم الخدمات العلاجية والوقائية لجميع أفراده بمختلف فئاتهم العمرية والمهنية، و جمعية حركية وهي جمعية تهتم بذوي الإعاقة (الكبار) وتقدم لهم برامج ودورات تأهيلية بما يخفف عنهم المعاناة النفسية والمادية لهم ولذويهم، وجمعية (كيان) للأيتام ذوي الظروف الخاصة بمنطقة الرياض ، والتي لها رؤية طموحة تتمثل في أن تكون جمعية متميزة ورائدة في بناء كيان الأيتام بما يدخل السرور عليهم ويشعرهم بأنهم قادة ينتظرهم المجتمع للإسهام في التنمية والإنتاج، وجمعية بنيان التي تأسست في مدينة الرياض على أيدي سيدات سعوديات، وهي تهدف إلى تحويل الأسر الفقيرة من أسرة متلقية إلى أسرة منتجة تستقل بذاتها، ولها مساهمات تعزز من دورها في بناء الوطن ورفعته.
وما ذكرناه من أمثلة يمثل جزءاً يسيراً من بحر عميق من الجمعيات الخيرية النشطة في جميع التخصصات والتي تسهم في رفع معاناة المجتمع وتعزز من التنمية المستدامة فيه.