حسب العلوم الاجتماعية فإن التنشئة الاجتماعيّة تعني الاهتمام بالعادات و الأنظمة الاجتماعيّة الكفيلة في تطوير المهارات الاجتماعيّة وتوفير الإمكانات اللازمة للفرد من أجل انخراطه بالمجتمع والاندماج مع أفراده بأقلّ مجهودٍ ممكن، وهي بالنسبة للأطفال عمليّة يتمّ من خلالها اكتساب الأطفال للأحكام الخلقية والانضباط الذّاتيّ وتوضيح المسؤوليّات الواقعة على عاتقهم في حاضرهم ومستقبلهم، وبالمختصر فالتنشئة الاجتماعية هي الوسيلة التي تُساهم في توضيح الأدوار المناسبة لأفراد المجتمع لتحقيق التوازن الشامل فيه، وتساهم الأسرة ودور العبادة والمدارس، وبقية المؤسسات المجتمعية في ترسيخ المبادئ والقيم التي تقوم بها التنشئة الاجتماعيّة. و هذه التنشئة ليست متوقفة عند عمر معين أو فئة معينة، بل هي عملية مستمرة طوال حياة الفرد، وتنتقل من جيل إلى آخر إما باستحداث أو إضافة أو تعديل بل ربما إلى حذف، ويختلف تأثيرها وامتداداتها باختلاف الدور والمركز الاجتماعي الذي يشغله صاحب الدور الذي تنطلق منه، فكلما كانت حاضرة لدى المتلقي كان أثرها واضحا وجليا على سلوكه واستجاباته الحياتية المختلفة.
وبذلك، تأخذ عملية التنشئة الاجتماعية أهميتها في منصة الحياة الاجتماعية من خلال كونها البيئة التي عبرها يتطبع الأفراد على مجموعة من السلوكيات التي تُستمد عادة من ثقافة المجتمع وطرز تفكيره وعاداته وتقاليده فهي المادة الأولية في رسم معالم شخصية الفرد والمجتمع إيجاباً وسلباً، انجازا وإحجاما، كل ذلك حسب التغذية التي تلقاها الفرد مع عدم إغفال العامل الذاتي للفرد وهو يتفاعل مع محيط بيئته، لأن شخصية الفرد نتاج للعامل الذاتي للفرد، والبيئة الاجتماعية والطبيعية المحيطة.
• وبحسب نظرية التعلم الاجتماعي: فإن السلوك البشري هو سلوك متعلم من البيئة المحيطة ، وبذلك فإن أساليب التنشئة الاجتماعية الخاطئة تلعب دوراً في اكتساب السلوك الخاطئ ومنها سلوك التنمر سواء التنمر الواقعي أو التنمر الافتراضي الالكتروني، من خلال الملاحظة والتقليد للنماذج الاجتماعية المتاحة في البيئة المحيطة في الأسرة ووسط الاقران في المدرسة، حيث إن سلوك التنمر يعد حالة نمذجة لسلوك يلاحظه الطفل من خلال أخوته أم أقرانه في المدرسة.
• وكذلك ترى النظرية السلوكية: بأن سلوك الطفل يكتسبه من البيئة المحيطة وفقاً لقوانين التعلم، فمثلاً يعتاد المتنمر على سلوك التنمر إذا قابله تعزيز عادة ما ينتج عن الشعور بالبطولة الوهمية ويُشارك في ذلك سلوك الأفراد المحيطين به كالزملاء والأصدقاء التي تُسهم في تعزيز سلوك التنمر مما يدفع المتنمر لتكرار سلوك التنمر في مواقف جديدة. ويتم خفض سلوك التنمر من خلال فنيات المدرسة السلوكية كالتعزيز، والإنطفاء، والعقاب.
وبذلك، وبحسب نظرية التعلم الاجتماعي، والنظرية السلوكية فإن السلوك متعلم من البيئة المحيطة، يقابله تعزيز من ذات البيئة عبر مجموعة من الرموز والاصطلاحات التي توافقت عليها هذه البيئة أو تلك.
آلية العلاج:
وسبيل العلاج وآليته حسب نظرية الإرشاد المعرفي السلوكي، تقوم على مبدأ التكامل بين البيئة المعرفية للفرد وسلوكه اليومي، حيث إن كل فرد يسلك وفقاً لما يعتقد وأن تغيير سلوكه يجب أن يسبقه تعديل معارفه وأفكاره، وتفترض نظرية الارشاد المعرفي السلوكي ومن هذه الفرضيات (1) أن الأنشطة المعرفية تؤثر على السلوك، (2) أن الأنشطة المعرفية من الممكن مراقبتها وتغييرها (3) التغيير المطلوب في السلوك يتم من خلال التغير المعرفي.
وهنا علينا أن نلتفت إلى نقطة مهمة سواء فما يتصل بالمتنمر إلكترونيًا، أو الضحية، وهي أن البيئة المعرفية تُعد عاملاً أساسياً لدى كل من المتنمر إلكترونيًا والضحية، حيث أن البيئة المعرفية لدى المتنمر تنتج لديه استجابة التنمر اتجاه ضحاياه في البيئة المحيطة به مثال ذلك: ( من يطربك اضربه ولا تبالي، من يتنمر عليك تنمر عليه )، كما أن البيئة المعرفية لدى الضحية لا تمكنه من الإدراك والاستجابة الإيجابية لحماية ذاته من التعرض للتنمر، وبذلك يكون ضحية سهلة للمتنمر إلكترونيًا وغيره يخضع لتهديداته وابتزازه المتكرر.
الأسرة وشبكات التواصل الاجتماعي
من المهم أن ندرك ومن موقع عمليات التغير الاجتماعي التي تصاحب عادة حركة المجتمعات بشكل مباشر أو غير مباشر، قد نتج عنها تغيرات كثيرة فيما يتصل بأدوار المؤسسات الاجتماعية، ومنها ما تتصل بأدوار الأسرة حيث لم تعد هي القناة الوحيدة التي يتشكل على ضوئها الفرد، وإنما هناك مؤسسات اجتماعية أخرى ظهرت وتطورت تبعاً لتطور المسيرة البشرية أخذت جانبا من تلك المهمات التي كانت منوطة بالأسرة، ومع مسيرة التطور المصاحبة لتطور أنساق المعرفة المختلفة، برزت وسائل الاعلام المسموع، والمرئي والمقروء، كاستجابة لمقتضى عملية التغير الاجتماعي، وصولا إلى شبكات التواصل الاجتماعي والتي دخلت كوسيط فاعل ومؤثر في عمليات التنشئة الاجتماعية بشكل فاق في كثير من مفاصله تأثير الوسائط الأخرى بل وصار مساهما في عمل تلك الوسائط بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك لمميزات تميزه عن تلك الوسائط، وأخرى تجتمع معه. وهذا يعني ومن خلال الملاحظة المقننة وبحكم طبيعة الأشياء فإن مجموعة من إفرازات الواقع الافتراضي المتصل بمحيط الشبكة العنكبوتية ترتب عليه نشوء مجموعة من المشكلات السلوكية المصاحبة لهذا الواقع الافتراضي، وهذا يعني من منظور سوسيولوجي تحول التنمر من البيئة الاجتماعية التقليدية - المرتبطة بالعلاقة المباشرة والمحددة عادة بزمان ومكان محدد معروف ( كالبيئة المدرسية مثلا ) - إلى البيئة الافتراضية عبر وسائل التواصل المختلفة فتحولت الظاهرة إلى نطاق أوسع وأشد خطورة في دائرة الانتشار نظراً للانفتاح الشديد والغموض والمجهولية المتاحة للشخص المتنمر مما جعل التنمر الالكتروني يأخذ موقع الصدارة في مظاهر التنمر المتنوعة. وبذلك، فإن ثمة دواعي ملحة تفرضها الضرورة الاجتماعية في إدارة الأزمات وهو العمل لمقابلة هذه المشكلات بالبحث والدراسة وبما يتناسب وخطورة الموقف. وفي أعلى سلم قائمة تلك المشكلات تأتي مشكلة التنمر الالكتروني والتي تأتي في أبسط معانيها على شكل سلوك مضاد، وهو تعمد إيذاء الآخرين بطريقة متكررة وعدائية عبر استخدام شبكة الانترنت ( الواقع الافتراضي ) من خلال: البريد الالكتروني، الالعاب الالكترونية، الرسائل النصية، ووسائل التواصل الاجتماعي مثل: اليوتيوب، انستقرام، تويتر ... الخ.
النسق القيمي في مواجهة التنمر الالكتروني
نعلم بأن الأسرة هي النواة الأولى التي يتلقى فيها الأفراد خبراتهم وتجاربهم الأولى، لأنها باختصار تمثل النافذة التي يطلّ الطفل من خلالها على الواقع الاجتماعي الخارجي، فيتعلم من خلالها على جملة من قواعد السلوك المرتبطة بقائمة الحقوق والواجبات والتي يرصدها بشكل دقيق ويومي لحظة بلحظة، شأنها شأن العملية التنفسية التي يقوم بها الكائن الحي، ومن أهم الاساسيات التي تمد الأسرة طفلها هي سد حاجاته الضرورية ومنها: الحاجة إلى الطمأنينة وبأنه آمن من الأخطار التي قد يتعرض لها من أي مصدر ( داخلي – خارجي )، الحاجة إلى إذكاء روح المبادرة واكتساب الخبرات والاعتماد على النفس، الحاجة إلى تقدير الآخرين، أي أنه يجب أن يشجعه الآخرون عندما ينجز عملا مما يدعوه إلى متابعة ابداعه في أعماله، الحاجة إلى الحب المتبادل أي تبادل العواطف النبيلة بين أفراد المحيط الأسري ، وبهذا فإن الأسرة من خلال تلبية هذه الاحتياجات الأساسية فإنها بذلك تهيء المناخ المناسب للعمل في خطين متوازيين في مجال مواجهة التنمر الإلكتروني وهما:
• تحصين الفرد ضد عمليات التنمر الالكتروني عبر تزويده بعناصر القوة في المواجهة، من خلال زيادة ثقته بنفسه، وإرشاده بكيفية اختيار الصداقات الايجابية، والابتعاد عن الرفقة السيئة وغيرها من قنوات التحصين المختلفة.
• التكامل مع خطوط المساندة التي تؤدي من قبل مؤسسات المجتمع المختلفة، وهو ما يعني العمل على إذكاء الوعي الالكتروني في الوسط الاجتماعي بما تتحول معه هذه الممارسة إلى سمة ثقافية سلوكية يتطبع عليها المجتمع بكل أطيافه، فكل خطوة في هذا الطريق مهما بدت صغيرة هي ذات أثر مهم في المدى المتوسط والبعيد، والقريب من موقع المبادرة في التقدم خطوة للأمام.
وبحسب الدراسات الاجتماعية والنفسية، عادة ما تكون الأسرة المتصدعة تعتبر بمثابة حاضنة طبيعية للعديد من المشكلات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والصحية التي تعصف بالفرد ومن ثم المجتمع سواء في نطاق الحي أو المجتمع المحلي. من هنا بات العمل على زيادة الوعي المجتمعي بمشكلة التنمر الالكتروني وغيره من المشكلات الأخرى هي ضرورة وليست حالة ترفيه زائدة عن الحاجة، لأنه وببساطة متناهية لا أحد يملك حصانة أن يقع ضحية في موقف لا يخطر على تفكيره، كما وأيضاً لا يملك ضمانة أن لا يوجد بين أفراد أسرته من يمارس التنمر الالكتروني سواء مع من يعرفهم أو من لا يعرفهم لأسباب قد تكون ناشئة عن طبيعة المناخ السائد الذي يسود الأسرة فكانت استجابته آتية من هذا الواقع المضطرب نفسياً واجتماعياً. ومن موقع هذه الاحتمالية – احتمالية التعرض للتنمر الالكتروني - تأتي أهمية الوعي المجتمعي الالكتروني بما يسهم هذا الوعي في رفد مؤسسات التنشئة الاجتماعية وفي طليعتها الأسرة بعناصر القوة التي تعينها في مواجهة المشكلة، أو الحد منها أو عدم تمددها بين أفرادها ( ضحية أو متنمر الكترونيا )، والاشتغال المكثف على منظومة النسق القيمي في مواجهة التنمر الالكتروني، مضافاً إلى استشارة المختصين في المجال النفسي والاجتماعي لاتباع الطرق السليمة في إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي سواء لضحية التنمر الالكتروني، أو المتنمر إلكترونيًا ، وذلك لأن التعامل مع التقنية المعلوماتية تأتي ضمن صميم ثقافة الجيل الحاضر ( الأبناء )، فهي جزء من حراكه اليومي وتسليته المستدامة، وهم في هذه الجنبة متقدمون معرفياً وممارسة وتطبيقاً عن ذويهم وأرباب أسرهم بفارق كبير، يصح أن نطلق على هذا الواقع ( أمية أرباب الأسر أمام خبرة الابناء )، إذ باتوا في مرحلة صار يستعان بهم في تذليل كثير من المشكلات التقنية التي تواجه من هم أكبر عمراً منهم سواء في نطاق الأسرة أو المدرسة أو أي بيئة أخرى، وعليه وبحكم هذه الخبرة التي تتوافر لدى جيل التقنية الحديثة ( من الأولاد ) فإن خيارات الأسرة وهي تتحرك في هذا الخط باتت شبه ضيقة جداً بالمقارنة مع خيارات حركتها في ميادين التنشئة الاجتماعية الأخرى. وبذلك، فإن فرس الرهان يكمن في تكثيف العمل بمنظومة القيم الخلقية التي هي خط الدفاع الاول في صد الهجمات والتداعيات الواقعة من جراء سوء استخدام هذه الوسائط، والتي تنطلق – أي منظومة النسق القيمية )، من تعزيز مبدأ الرقابة الذاتية للفرد، وتأصيل الحس والمسؤولية الاجتماعية لديه، فتسهم بذلك في تكوين العلاقات الاجتماعية الايجابية وتنظيم المجتمع والحفاظ على استقراره وفقا لمصالح المجتمع وأهدافه من خلال عملية الضبط الاجتماعي التي تمارسها على الأفراد حيث تعاقبهم عند قيامهم بسلوك مخالف لسياقات المجتمع، مما يحقق ذلك التآزر والمحبة والتعاون والألفة والانسجام بين أفراده وهو ما يعني التكيف والاستقرار في الوسط الاجتماعي الذي ينتمون إليه ويعيشون فيه. ومن موقع الأزمة الاجتماعية والنفسية التي تسببها مشكلة التنمر الالكتروني، للضحية والمرتبطين به وبعلاقاته الاجتماعية الأسرية والمهنية، فقد سعت الدول إلى سن القوانين الضابطة لهذا السلوك العدواني، حيث عُدت هذه الممارسة ضمن قائمة الجرائم المعلوماتية التي يعاقب عليها القانون، وبذلك جاء القانون ليعزز من أهمية منظومة النسق القيمية في المجتمع كآلية من آليات الضبط الاجتماعي في مواجهة ظاهرة التنمر الالكتروني.