حملت صغيرتها التي تبلغ سبعة أشهر فجرًا قبل بزوغ الشمس ولحفتها جيداً لكي لا تجرح وجنتيها الجميلتان هبوب رياح الشتاء الباردة والشديدة.
احتضنتها وحملت حقائبهم، وطلبت من زوجها الحنون أن يوصلها إلى محطة تبعد عن منزلهما المرتفع والبعيد عن مسار طريق صويحباتها مسافة بضع كيلومترات.
انطلقا كالعادة يتبادلان حديث الصباح وأحلام الغد، وصلا إلى المحطة ووجدت صديقتها قد أقبلت، هيئت نفسها واحتضنت صغيرتها من جديد وحملت حقائبها كذلك ونزلت من سيارتهما لتركب مع صديقتها، جلست في المرتبة الخلفية لتشعران بالدفء ولتستطيع الإسترخاء وأخذ غفوة بعد رحلة سهر مع صغيرتها المشاكسة.
كان الطريق طويلا ومملاً وعبارة عن ملاوٍ ومنحدرات ومرتفعات، وصلتا وقت الطابور الصباحي كانت تشعر سماح أن يداها متنملتان وبدأت تشعر بالدوار، ولأنها خافت أن تسقط صغيرتها من بين يديها المثقلتان ناولت صديقتها الطيبه الطفله وانطلقت بها تحملها وتوقع حضورهما بسرعة قبل ان تتجاوزا الخط الأحمر، شعرت سماح أن قلبها يكاد يتوقف وأن نبضه سريع، و أن قدميها اصبحتا ثقيلتان أيضا، حاولت جاهدة أن تصعد عتبة المدرسة وتدخل قبل أن تسقط أمام الحارس والسائقين.
دخلت بحمد الله ومشت بثقل وهي تكاد أن لا ترى شيئاً أمامها حاولت الا تدخل من أمام الطالبات وأعضاء هيئة التدريس وريح الشتاء تبعثر اوراق شجرة الكين العملاقة المزروعة في الفناء محملة برمل ناعم يتلاعب في ساحات المدرسة.
مشت قليلاً حتى أصبحت في الساحة الخلفية هنا لم تعد تتمالك نفسها وسقطت على الأرض مغشياً عليها، لم يعلم بها أحد، بقيت دقائق ثم فاقت من الداخل سمعت نشيد السلام الوطني وانتهاء فقرات الإذاعة، سمعت ضحكات زميلاتها وسلامهم على بعضهم وهي تصرخ من الداخل دون أن يسمعها أحد، مازالت مستلقية بين الأتربة تجرح وجنتيها.
رن جرس الحصة الأولى وتوجه الجميع إلى أعمالهن وهي تحاول أن تتحرر من قيودها وتنهض لكنها لم تستطع.
مرت نصف الحصة الأولى ولم يسأل عنها أحد، بكت كثيرًا من الداخل كانت تصرخ لكن دون أن يسمعها أحد شعرت حينها أن الكون خالٍ، سوى من صفير الريح ولسعات البرد في جسدها المنهك، مر الوقت و اوشكت نهاية الحصة الأولى وهي ما زالت كما هي تسمع ضحكات الجميع وأصوات الشرح ومشاركات الطالبات، لكنها في هامش هذا الحراك العملي، مستلقية بين الأتربة، رن الجرس وانتهت الحصة الأولى، ولم يسأل عنها أحد، هنا بدأت تدعو الله أن يعينها كي تأخذ الهاتف وتتصل على أحداً يساعدها كي تدخل من هذا الألم والبرد والوجع فاستجاب الله لها، ومسكت الهاتف ببطء ورنت على أول اسم بطرف إصبعها ثم ردت صديقتها، الوو الووو الوو سماح ماذا تريدين؟
ثم أغلقت الهاتف دون أن تستطيع أن تخبرها بشيء انتظرت أن تشك صاحبتها وتبحث عنها، ولكن للأسف لم تهتم فقد كانت مشغولة، اتصلت على صديقة أخرى وردت عليها أيضا : الوو الوو ماذا تريدين يا سماح ؟
وأغلقت الهاتف ولم تحاول أن تهتم !
بكت سماح بكاء ذلٍ وحسرة، ثم تمالكت نفسها مرة أخرى مع انتصاف الحصة الثانية واتصلت على صديقتها المقربة بطرف إصبعها أيضاً وعندها أمل كبير أن يحدث تغيراً وشعور صديق صادق : الوو الووو سماح ماذا تريدين ؟
حين لم ترد سماح أغلقت الهاتف وأكملت ارتشاف قهوة الصباح مع صديقاتها.
بكت سماح كثيرا ، ثم جف الدمع وبدأت تحدث نفسها أن الله سيكون معي بيقين ، قرأت سورة الإنشراح ورددتها مراراً واستشعرت أن بعد العسر يسرا هنا بدأت قدماها تتحركان وانفتحت عيناها المليئتان برمل قاسٍ لا يرحم،استطاعت الإتكاء قليلاً والجلوس وبدأت تشكر الله وتقوي نفسها من الداخل بأنها تستطيع الإعتناء بنفسها دون حاجة أحد، تمالكت نفسها ووقفت وحملت حقيبتها المبعثرة بعد أن جمعت ما تساقط منها،
مشت على جدار المدرسة على مهل ووجدت باب الطوارىء الذي يؤدي إلى صفها في الدور الثاني.
هنا رن جرس نهاية الحصة الثانية الكئيبة و شعرت سماح حينها أن الزمن بات طويلاً جدًا.
دخلت صفها وأزالت الغبار من ثيابها وغسلت وجهها ويديها ورتبت شعرها بطوق جميل منقوش فيه زهرات ملونه كانت تريد أن تلبسه وتزين به شعرها.
ثم وضعت على شفتيها قليلاً من لون الزهر لتبدو مثل حديقةً مزهرة أكثر إشراقاً من الظاهر .
في حين أنها قد أخفت تلك الصحراء الموحشة بين حنايا فؤادها الحزين ورشت عليها عطراً تحبه كانت تحمله في حقيبتها ، أهداها إياه أخيها.
ثم تشجعت وتمالكت نفسها وقالت لن أكون وحيدة سأنزل واشرب شيئًا دافئًا يسكن ما تبعثر بداخلي.
نزلت سماح ودخلت غرفة المعلمات وهي تجاهد عبرات الخيبة لتبدو متجلدة قوية.
حينها سألتها احدى صويحباتها اللاتي لم يتجاوبن لاتصال استغاثتها، وقالت بصوت مرتفع ماذا كنت تريدين مني يا سماح عندما اتصلت، هنا توقف مسار قهوتها الدافئة واختنقت بها وبدأت دمعاتها تجاهد ثورانها حتى لا تغرق قوتها تلك أمامهم.
قالت لها سماح لا عليك كنت أبحث عن صديقةً حقيقية ولم أجدها، ووضعت كوبها على الطاولة وسط صمت الجميع فقد كان الجميع يعلم أنها تعاني من زمن ولكنهم عاجزون عن مساعدتها ثم رجعت سماح إلى صومعتها الوفية تنتظر قدوم صغيراتها .
بعد وقت اعتذرت سماح من صديقتها وقبلت جبينها وقالت لها ، أعلم أن كل إنسان مسؤول عن ذاته ومعاناته ولكني كنت في مرحلة ضعف حينها لذا لا تهتمي بما قلت لك واعذريني.
هنا تعلمت سماح أن الإنسان قوي بذاته فقط وأن كل معاناة يمر بها الإنسان هو المسؤول عنها فقط وليس غيره أحبت صديقاتها والتمست لهم عذرهم .
واستمرت سلسلة معاناتها تلك ولكنها في كل موقف تكتسب درساً جديداً ومعرفة مهمة في مواجهة الأزمات والمواقف.
سماح رغم تعبها ومعاناتها لم تستسلم ما زالت تزرع وتنتظر الحصاد.