يحكى في سنة من سنين الجدب والجوع... نجع أناس من قريتهم إلى قرى بعيدة طلبا للرزق شهدت أرضها أمطارا وسيولا وارتوت معاميلها وزرع الناس وحصدوا خيرا عميما، وكان للمنجعين أصدقاء وسماية في الموقع الذي ذهبوا للتخضر فيه فعملوا معهم وحصدوا واستفادوا ، إلا شخصا واحدا وعائلته من المنجعين لم يصادفوا لهم من يأويهم ويستضيفهم أسوة بغيرهم، فأصابه هم وغم ولزم بيته لبضعة أيام، لكنه ما فتأت قريحته أن تفتقت عن حيلة ذكية تدل على دهاء الرجل وفكره العالي.
وقال لزوجته ترددي على جاراتك وحثي أمامهم أن السيد "فهيم" لم يعرف له الناس قدرا.. أو مكانة وإلا مثله لاينبغي أن يطلب عملا ولا ينحني لمساعدة أحد أعطاه أو منعه، فهو سيد في قومه وعشيرته ومنزلته لديهم مقدرة فلا يذهب إلا للمسجد... ولا يعود إلا لبيته.
وهاهو مالبث أن اعتكف في بيته منذ عدة أيام لعل الله ينفع بعلمه ويرزقه من حيث لا يحتسب..
فقلن الجارات لها أحقا زوجك سيد..؟!!
قالت نعم هو كذلك..
سألوها وما علامة ذلك...؟!!
قالت لهم السيد "فهيم" يصنع من الشجر حجرا وهذا دليل كافي على صحة كونه سيدا ويعالج المرضى ويداوي الجرحى ويقرأ على الممسوسين والمسحورين..
الجارات العزيزات مالبثن أن نشروا خبر سيد مع المنجعين يقرأ على المرضى ويداويهم ويصرف لهم العلاجات.
فذاع صيته في البيوت داخل القرية وخارجها
وأصبح الناس بين عشية وضحاها يتوافدون على السيد "فهيم"، وكل يأتي له بعذوق الذرة والخضير أو أكياس من الحب والخضروات والفواكه ويضعها أمامه حتى ماكادت الدار التي يقيم فيها تتسع لضخامة هذه الخيرات
فرأى الرجل وعائلته أنهم قد اكتفو وأخذوا أضعاف مايحلمون به من الخيرات... فقرروا الارتحال من القرية ليلا مع أسرته وحمل جميع ما أفاض عليه الناس من خيرات في قافلة من الجمال والحمير ولم تشرق الشمس إلا وقد نزل بأحد الأسواق الشعبية الشهيرة .. شاط حبوبه ومحاصيله وباعها هناك ولم يبقى منها إلا القليل وغنم الكثير من الأموال والبقر والضأن وقفل بها عائدا إلى ديرته ولم يلبث خلال فترة وجيزة أن كان من هوامير الأثرياء فيها ، بفضل الله ثم بفضل الحيلة التي روجها ليوهم الناس بقدراته الخارقة في علاج مرضاهم ومن مسه جني منهم أو تلبس به شيطان أو ذو عين ..والناس مصدقون معتقدون بقدراته المتخصصة، وفي صباح اليوم التالي شاع بين الناس أن السيد "فهيم "قد غادر قريتهم في ظروف غامضة فحزنوا على ذلك واغتموا كثيرا، وقالوا غادرنا شيخنا الفاضل السيد فهيم الذي يصنع من الشجر الحجر
فلما بحثوا عن بعض معارفه ليفسر لهم مفهوم هذه العبارة قال لهم : نعم أن الرجل صاحب مهنة يقطع الشجر ويجففه ثم يحرقه حتى يتصلب ويحوله إلى حطم ويبيعه للناس في السوق، فهو صانع حطم وليس بسيد كما أوهمكم وضحك عليكم واسترزق من ذكاءه ومن بلاهتكم، وذهبت هذه العبارة بعد ذلك مثلا...؟!!
ما دفعني الإشارة إلى هذه القصة الفكاهية بما فيها من دلالات واستنتاجات هو واقع معظم طبنا الحكومي الذي حوله بعض أطبائنا السعوديين بقدرة قادر إلى طب خاص بعياداتهم أو مستشفياتهم ومراكزهم الصحية، ويقنعون مرضاهم أن العلاج المناسب لهم يكمن في عياداتهم الخاصة ذات الإمكانيات العالية والكفاءات الفريدة وأن هذه الخصائص لا تتوفر في المستشفيات التابعة للدولة، وإن اضطررت لدفع مبالغ باهظة لدينا مقابل خدمات علاجية وسريرية راقية أفضل ألف مرة أن تتعالج مجانا وتزداد حالتك سوءاً.
وهكذا أصبحت المستشفيات والعيادات الحكومية مكاتب يزاول فيها بعض الأطباء الدعاية لعياداتهم الخاصة وإحباط المرضى والمراجعين من الخدمات الطبية والصحية العامة...
وليت الأمر يتوقف على ذلك فحسب بل تجاوز أطبائنا حتى في الدعاية المفرطة لهم وبالغوا في ترويج أرقام خيالية لحالات صعبة ومستعصية تم علاجها من قبلهم وتماثلت جميعها للشفاء وبنجاح تام ١٠٠٪.
فهذا حقق رقما قياسيا في معالجة تساقط أطراف شعر الرأس نتيجة عوامل البيئة والطبيعة واستخدام شامبو الشوب المقلد، وآخر يكاد يحلف دعائيا أنه تمكن بقدرة قادر من إنقاذ ٥٠٠ حالة ظفر كانت آيلة للسقوط لمزارعين في الجبال أو تهامة نتيجة استخدامهم لمحشات صينية أو روسية قديمة في صريب مزارعهم أو قطف عذوق سنابلهم أو القفز من أحواض الشاصات أو الهايلكس في المراعي البعيدة وهي تسير الهوينا وكل ظفر في أصبع رجل أو قدم لم تتعدى قيمة إصلاحه أكثر من ١٠٠٠٠ريال غير شاملة لتكاليف التنويم بضعة أيام والعلاجات بالطبع.
وحينما تستبشر بهذا المنجز غير المسبوق وتتجه مسرعا لحجز موعدك مع الإستشاري الفريد أبو الفهامة في مشفاه الحكومي تتفاجأ به يطلب منك مراجعته في عيادته أو مركزه الخاص ليتكمن من تشخيص حالتك بدقة وعلاجك علاجا شافيا.. كافيا أنت وجيبك وما تملك..من حطام الدنيا الفانية؟!
وهناك من الأطباء المتعففين عن تسويق الدعاية المدفوعة الثمن، من يستخدم مرضاه ومراجعي عيادته من الضعوف الذين يدفعون مبالغ للكشف أو العلاج عنده من يروج له وأنه طبيب حاذق ومتمكن وقد اكتشف علاجا نادرا للسكري والصدفية وحب الشباب وترهل الكروش.. ومرض الزطاط والحصبة الرومانية والألمانية على حد سواء.
ويطلب منهم محاولة إقناع الآخرين بأي وسيلة للكشف عنده حتى لو لم يكن بهم سقم للتأكد من حالتهم وأن علاج أي وجع مضمون لديه لأي علة بإذن الله.
وقد ينشر مرضاه بالطبع تلك الدعاية التي حفظهم إياها عبر وسائط التواصل الاجتماعي والغريب أن كل من يتجمل ويعمل دعاية لهذا الاستشاري المزعوم يختمها بعبارة مفادها، ترو الدكتور ما طلب مني أعمل له دعاية ولكنها لله علشان تراجعوه وتتستفيدوا من علاجه.
الله أكبر يابو العريف يعني ما نزلت الفهامة والنبوغ إلا على حضرته..
وقس على ذلك حالات ونماذج كثيرة لا نهاية لها في هذا الجانب ونحن لسنا ضد أبناءنا الأطباء بل إننا نفرح لهم وندعم المتميز والشاطر فيهم وندعو له ، ونشكر الدولة أن منحتهم هذه الفرصة وهذه الثقة والدعم لفتح عيادات ومراكز طبية ومستشفيات خاصة بالرغم من أنهم موظفون حكوميون مثلهم مثل غيرهم مع ميزة الطلب المتزايد على الأطباء خاصة التخصصات النادرة
لكن هذا الانفلات غير الأخلاقي والخروج عن مبادئ مهنة الطب وتحويلها إلى وظيفة تتسم بالجشع واستغلال خلق الله تحت مسمى طبيب.. والمغالاة في الأسعار وتحويل مرضى عياداتهم الحكومية إلى عياداتهم الخاصة وعمل اعلانات الدعاية والتسويق دون ضوابط أو معايير، كلها تشير أن مفهوم التطبيب في طريقه أن يتحول في بلادنا إلى تجارة الشنطة أو طب الشنطة وخروجه عن أي معايير أخلاقية.
وطبعا هذه الأمثلة لا تمس الكثير من الشرفاء الذين يعلمون أن الله تعالى مراقب أعمالهم ومطلع عليها وأن الخالق قد ميزهم بهذه الخصال الحميدة لعلاج الناس بالمقدر والمعقول والكسب الشريف وليس الاستغلال والجشع والضحك على البسطاء ومن ظنوا بهم خيرا.
وهنا سؤال ختامي يطرح نفسه لكل الجهات الحكومية والمرجعية والرقابية في الدولة.. هل أنتم في علم مما أشرنا إليه ياوزارة الصحة والتجارة والإعلام وهيئة مكافحة الفساد والرقابة والتحقيق وهيئة التخصصات الصحية ، وماهي الضوابط المشروعة أو الممنوعة في العمل المهني الطبي والتسويقي؟!
ولمن يتوجه المغلوب على أمره بالشكوى من فوضوية استغلال مهنة الطب في كسب بهذه الطريقة قبل أن تصبح المهنة كبائع الحطم الذي يصنع من الشجر حجرا ثم أصبح طبيبا وسيدا يعالج الناس من أجل التكسب والثراء السريع.. مع فارق الظرف والدوافع والنتيجة بالطبع.
والله المستعان