وهكذا مكن الله سيدنا يوسف في أرض مصر وصار وزيرا على خزائنها و عرف بعدله ورحمته، وحدث أن أجدبت الأرض وصار هناك قحط في أرض فلسطين فجاء إخوة يوسف يريدون أن يمتاروا أي يشترون الثمار و التبضع من مصر ودخلوا على أخيهم و تعرف عليهم لكنهم لم يعرفوه فقد كبر و صار رجلا بالغا وقال لهم بأنهم عيون أي جواسيس لكنهم نفوا ذلك و أخذ يسألهم عدة أسئلة عن أبيهم وأخبروه عن حب أبيهم لأخيهم يوسف و بأنه هلك و من ثم صار يفضل بنيامين أيضا و هو أخوهم الأصغر، فطلب منهم يوسف أن يأتونه بأخيهم بنيامين و أوفى لهم الكيل و زادهم بل وضع ثمن البضاعة التي اشتروها في رحالهم وقال لهم لا كيل لهم عنده اذا لم يأتوا به و تركوا أخاهم شمعون عنده كرهينة .، فذهبوا إلى أبيهم يطلبون منه أن يجعل بنيامين يرافقهم في زيارة مصر القادمة ولكن الأب المكلوم خاف على ابنه كما كان خائفًا على يوسف وذكرهم بخوفه من أن يأكله الذئب وطلب منهم موثقا من الله أن يرجعوه سالما فأعطوه موثقا من الله و بالفعل سافروا جميعا و قد أوصاهم أبوهم يعقوب و كان ذا علم من عند الله بأن يدخلوا من أبواب متفرقة خوفا عليهم من الحسد و العين فقد كانوا ذوي جمال و هيئة حسنة وأحد عشر رجلا لأب واحد، و بالفعل نفذوا أمر أبيهم و ماكان ذلك ليقيهم أو يعصمهم من أمر الله لكنها حاجة في نفس يعقوب قضاها و هي خوفه عليهم ليرتاح قلبه، ثم دخلوا على يوسف و أكرمهم يوسف و أسكنهم كل اثنين منهم معا واحتج بأن بنيامين لا شريك معه في سكنه و إقامته فضمه إليه و أسكنه معه وكشف له عن شخصيته بأنه أخوه وأن الله قد أكرم يوسف و أعطاه من النعم الشيء الكثير، ثم كان أن أوفى لهم يوسف في تجهيز بضاعتهم وأكرمهم ثم أخفى صواعه أي المكيال الذي يكال به الثمر في رحل أخيه بنيامين وأذن في القافلة بأن هناك سرقة و تم اتهامهم بها و بالطبع ذعروا من ذلك الاتهام وقالوا ما جئنا لنسرق ولم نكن سارقين ولكن يوسف بدأ في تفتيش رحالهم و أوعيتهم واحدا تلو الآخر ثم استخرجها أي المكيال أو الصواع من رحل أخيه والصواع يحتمل التأنيث و التذكير كما أنه مصنوع من المكوك الفارسي و قيل يستخدم كآنية لسقاية الملك، و بالطبع استبقاه يوسف كعقاب له على ماقام به من سرقة وكان هذا عقابهم بأن يستعبد و يتم أخذه عبدا ، و هكذا بقي بنيامين عند يوسف، يقول تعالى (كذلك كدنا ليوسف) فما كان ليأوي أخاه في مصر إلا بترتيب كهذا، أما أخوة يوسف فصاروا يضربون كفا بكف ورفض أخوهم الأكبر عمرا و الذي كان قد منعهم من قتل يوسف و هو روبيل، رفض الرجوع لفلسطين و بقي في مصر منتظرا من أبيه الإذن وخائفا من حزن أبيه بعد أن أعطوه الموثق، و بالفعل حين ذهبوا لأبيهم اغتم و حزن حزنا شديدا حتى محق سواد عينيه و كتم ألمه في قلبه فهو كظيم وقال صبرا جميلا والله المستعان على كل شيء، وطلب منهم أبيهم أن يعيدوا الكرة في محاولة تلمس أي خبر عن يوسف أو بنيامين ولا ييأسوا أبدا من فرج الله فلا ييأس سوى الكافر فقير الإيمان بالله، و عادوا ليوسف و طلبوا منه التبضع فقد مسهم الضر و معهم دراهم قليلة و ناقصة و رديئة، فقال لهم مذكرا :هل تذكرون ما فعلتم بيوسف وأخيه ، إذ فرقتم بينهما وصنعتم ما صنعتم إذ أنتم جاهلون؟ يعني في حال جهلكم بعاقبة ما تفعلون بيوسف ، وما إليه صائر أمره وأمركم، فقالوا إنك لأنت يوسف فاعترف لهم بأنه يوسف وبأن الله من عليه برزق عظيم فجزاء من يتقي و يصبر الخير الكثير، واعترفوا بذنبهم معه و بأن الله فضله عليهم و طلبوا منه السماح و بالفعل سامحهم الكريم ابن الكريم وأعطاهم قميصه ليلقوه على وجه أبيه فالعلاج من ضد جنس المرض فيعقوب قد فقد بصره حزنا بسبب فقد ابنه و لما اقتربت القافلة من ديار يوسف قال لهم إني أشم ريح يوسف و ستكذبونني، فسخروا منه و من كلامه و لكن إحساس الأب صدق وكان لديه علم من الله لم يمنحه لسواه و بالفعل عاد بصيرا حين رمي القميص على وجهه واعترف أبناؤه بذنبهم الكبير و طلبوا منه المغفرة وسامحهم و استغفر الله لهم و بالفعل سافروا جميعا لمصر ، فلما دنا أخبر يوسف أنه قد دنا منه , فخرج يتلقاه. قال: وركب معه أهلُ مصر وكانوا يعظمونه، فلما دنا أحدهما من صاحبه , وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على رجل من ولده يقال له يهوذا قال: فنظر يعقوب إلى الخيل والناس , فقال: يا يهوذا، هذا فرعون مصر؟ قال: لا هذا ابنك، فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وأمه كانت قد ماتت ولكن هذه خالته أخت أمه تزوجها بعد وفاة أم يوسف ، وقال ادخلوا مصر آمنين ، ورفع أبويه على العرش أي عرش الملك و خروا له جميعا منحنين ساجدين و قيل كانت هذه تحيتهم وليس سجود عبودية بل انحناء تحية و تبجيل و تعظيم و هكذا تحققت الرؤيا التي رآها يوسف قبل عقود و قيل أن يوسف ألقي في الجب و عمره سبعة عشر والتقى بأبيه بعد خمس و ثلاثين عاما و قيل أربعين و قيل ثمانين و قيل عاش معه أبوه قرابة العشرين عاما قبل موته و أن يوسف عاش مئة وبضع وعشرين عاما، ثم قال
وقد أحسن بي ربي إذ أخرجني من السجن ولم يقل من الجب استعمالا للكرم ; لئلا يذكر إخوته بصنيعهم بعد عفوه عنهم بقوله : لا تثريب عليكم، وجاء بهم من ديارهم من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي بإيقاع الحسد ; قال ابن عباس : أفسد ما بيني وبين إخوتي، أحال ذنبهم على الشيطان تكرما منه فجعل نزغ الشيطان هنا لهم وله جميعا وليس لهم فقط .
إن ربي لطيف لما يشاء أي رفيق بعباده، وهو العليم الحكيم، ثم في الآية التالية يناجى يوسف ربه حين تكاملت عليه النعم وجمع له الشمل اشتاق إلى لقاء ربه - عز وجل - . وقيل : إن يوسف لم يتمن الموت ، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام ; أي إذا جاء أجلي توفني مسلما، و يلحقه بالصالحين، و هكذا كانت هذه قصة يوسف، التي أراد بها الله تسلية نبيه محمد صلى الله عليه و سلم من كفر قومه و أذاهم و ليخبره بأن ليس كل الناس سيؤمنون ولو حرص على ذلك.
قصة عظيمة نتعلم منها معاني الأخوة و الصبر والتقوى و البعد عن المعاصي، و كيف يتصرف الإنسان إذا ماتم ابتلاؤه و كيف يكافىء الله عبده المحسن، وضرب لنا يوسف أروع الأمثلة في التسامح مع إخوته حتى أنه لم يرد إيلامهم بكلمة و لم يعيرهم بذنبهم بعد أن سامحهم حتى كلماته كان ينتقيها حتى لا يذكرهم بصنيعهم معه، و هذا درس في عدم العودة للحقد و الانتقام بعد العفو و درس في كيفية التحمل من أجل الرحم و القرابة فالأخوة جبل سامق و للأسف كثيرون يهدونه أرضا بخلافاتهم، في قصة يوسف بشرى لكل من يصبر و يتقي بالمكافأة الجزيلة و الخير العميم في الدنيا قبل الآخرة.