( الأناركية) أو اَللَّاسُلْطَة وتسمى أيضا (الفوضوية ) هي فلسفة قديمة موغلة في القِدم تعتبر أن الدولة تجسيداً للاستبداد وتروّج لمجتمع بلا دولة، وبغض النظر عن البعد التاريخي لظهور هذه الفلسفة فإن من الواضح أنها اتخذت شكلها الحركي في العصور الحديثة وبرزت على أرض الواقع في أوروبا مرتبطة بالحركة الشيوعية العالمية ومستفيدة من الفكر العلماني التنويري، وما يهمني من هذه المقدمة هو مفهوم (اللاسلطةأو الفوضى ) في التراث العربي القديم السياسي والاجتماعي.
إن أحد المعاني الشائعة لمفهوم (الأناركية) هو ( الفوضوية ) وفي ذات السياق أجد أن لفظ الفوضوية كُرِّسَ في المفهوم العربي اللغوي كتعبير عن( انعدام النظام) حيث كانت المجتمعات العربية في صراع دائم وتمرد ورفض لسلطات الأمر الواقع ولعل هذا من أسباب سقوط الممالك والدول التي أقامها العرب على منطق القوة والغلبة. . . فهل كان العرب أُمةٌ(فوضوية)أم أُمةٌ(متحررة) ترفض الخضوع والاستبداد والعبودية والتبعية. . .؟ وللإجابة عن هذا السؤال سوف لن نعود إلى استقراء التاريخ ولكننا سنعود إلى لغة العرب للتعرف على مفهوم ودلالات الألفاظ المرتبطة بِالسُّلْطَةِ واللاسُلطة. وقد ارتبط لفظ الفوضى بوصف كل ما هو سلبي ومرفوض وضد كل ما هو شرير وجاهل وخارج عن السلطة والقانون ومن ذلك ما قاله (الأفوه الأيدي) أحد أقدم شعراء العرب:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
تلقى الأمور بأهل الرشدِ ما صلحت
فإن تولوا فبالأشرار تنقادُ
والأفوه الأيدي هو أحد أمراء السلطة في مملكة مذحج اللذين خاضوا معارك ضارية ضد تمرد القبائل النزارية الثائرة.
.. من ذلك يظهر لنا أن لفظ (فوضى) قد استخدم منذُ وقتٍ بعيد للإشارة إلى أعداء اَلسُّلْطَة ووصفهم بالفوضويين والأشرار وهذا المؤشر جعل الباحث السعودي الاديب جبريل السبعي يصنف لفظ فوضى باعتباره دلالة لغوية على(منحى ثوري) يتسم بالخروج على السلطة ومعاداة النظام ، وقد تتبع جبريل السبعي في كتابه(الفوضى، مفهومها وأشكالها وتجلياتها) دلالات هذه المفردة في المعاجم العربية ووجدها تدور في أربع دلالات هي: -
١-دلالة الاختلاط فيقال: - •قومٌ فوضى أي متخلطون لا أمير لهم والقوم فَيُضوصا أمرهم وفيضوضًا فيما بينهم إذا كانو مختلطين لا يُؤامر واحدٌ منهم صاحبه فيما يفعل في أمره
٢-فوضى التفرق فيقال: - •صار الناس فوضى أي متفرقين. •والوحش فوضى(متفرقةً) .
٣-فوضى التساوي فيقال: - •وقومٌ فوضى أي متساوون لا رئيس لهم
٤-فوضى التشارك فيقال: - •متاعهم فوضى بينهم إذا كانوا فيه شركاء •وأموالهم فوضى بينهم أي هم شركاء فيها.
وقد انتهى الباحث إلى أن الفوضى في الوعي اللغوي عند العرب وفي أصل اللغة إنما تقع على الإنسان اختلاطًا أو تفرقًا أو تساويًا أو تشاركًا وأن الفوضى بدلالاتها المتعددة يتبطنها تارةً معنى ( الهملية ) وتارةً معنى(الوحشية)وتارةً معنى(عدم التفاضل) وأن ذلك مقترنًا بغياب السلطة والنظام. . . فهل أصاب الأستاذ جبريل السبعي في قوله إن دلالة الفوضى مقترنة بغياب السلطة والنظام؟ حين يعني أن ذلك كان نمطًا سَلْبِيًّا في حياة العرب فاستحلوا فيه دماء بعضهم البعض .. ؟ وهل أصاب ابن خلدون القول حين قال ( إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خُلقًا وَجِبِلَّة وكان عندهم ملذوذًا لما فيهِ من الخروج على ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة)..؟
ما أميل إليه هو أن حياة العرب في الجاهلية إنما كانت تجسيدًا عَمَلِيًّا لفلسفة (الأناركيه) بمعناها التحرري وليس الفوضوي فبمقارنة دلالة لفظ الفوضى في حياة العرب نجدها مشابهة لمبادئ الاناركية ورؤيتها السياسية والحياتية وحين نرجع إلى معنى لفظ (حرية )في المعاجم العربية نجدها تعني الخلوص من العبودية وعدم الخضوع للقهر والقيود والغلبة. .، إن فلسفة الأناركيه لا ترفض النظام التضامني الأفقي بين الجماعات في شكل من الجمعيات التعاونية المنظمة وهو ما يشبه ( الأعراف القبلية )لكنها ترفض مفهوم السلطة الهرمية التي تحوّل المجتمعات إلى طبقات وإلى سادةٍ وعبيد وما يتصل بذلك من تسلط وقيود واستبداد ، ومن الملاحظ أن نظام ( اللاسلطة ) وأعني به الحكم الخالي من السلطة الهرمة استمر صامدا عبر التاريخ على الرغم من شراسة قوى التحديث والتمدين ..
لقد رسخ في فهمي أن ابن خلدون كان مخطئا وربما منحازا حين أطلق نظريته عن العرب ووصفهم بالسرّاق والفوضويين والمخربين حتى قرأت مقالا للدكتور علي الشعواني منشورا بصحيفة سهم الالكترونية بتاريخ 28/ مايو/ 2021 بين فيه ما تعرضت له مقدمة ابن خلدون من التزوير والتزييف والتحريف المتعمد وأجدني اتفق مع الدكتور الشعواني فيما ذهب إليه لما في ذلك من منطق وموضوعية وانصافا للعرب وللعالم الجليل ابن خلدون. . والله اعلم.