منذ البدء كان الوصل، رابط لايستغني عنه البشر ، يحتاج الإنسان أن يتواصل مع المحيطين بعيدا كانوا أم قريبا، وما اللغات إلا مراكب وسفن تمخر عباب الجمود لتصل الناس بعضهم ببعض، انتقال جسدي من مكان لسواه أو تواصل عبر الحرف و النظرة و التماس، كلها مظاهر للإتصال وجسور للارتباط.
في حبو الحضارات كانت القدمان تنهب المسافة وهمهمات اللغات الوليدة تفتح بابا للتفاهم، ثم كانت الدواب مسخرة لانتقال أكثر راحة و سرعة، ثم جاءت الطافيات اللواتي يمخرن صفحات المياه وصولا من بر إلى بر.
لم يكن للإتصال سبيل سوى عن طريق المباشرة والحضور، وينوب عن الإنسان حمامة زاجلة تعانق بساقها رسالة فتطير بشوق محب أو نداء مستغيث.
و خط الحبر آهات العاشقين على الأديم والرقاع، وغاص القلم في مداد النجاة ليحرر خطاب تنوير وتقرير دستور أو قصيد مدح و هجاء .
مئات السنين تداعت و الإنسان يحلم بقرب ممن يحب، فاخترع و ابتدع ، وابتكر وأبدع ، واكتشف للتواصل و الاتصال طرقا أروع، وهبت الحضارات تفرز عجائب والعلوم تنتج غرائب، حتى وصلنا لحاضر زاحمت فيه أقمار مصنوعة أقمار السماء المرفوعة، وباتت الأرض تتعجب مشدوهة من عبقرية الساكن و نتاج ذكائه، وسادت الكوكب التقنية و أدواتها حتى ماعاد يظن بأن هنالك مزيد.
التقنية وأساليبها عالم ذي زخم، قلص المسافات الحقيقية مقابل التسارع و التقارب، منحنا معلومات فورية بيد وسلب منا القدرة على الاحتفاظ بها بالأخرى.
ضعفت ذاكرتنا وأذهاننا و قويت ذاكرة الهاتف..
بهتت علاقاتنا الحميمة و توهجت علاقات البعد والافتراض..
شبكت التقنية بين أطراف الأرض و تركت الكثير الكثير من البشر والقيم والمنافع لتقع صريعة من سماء المسافات المقلصة واحدا تلو الآخر.
تعطلت حواس الآدمي و أضيف للآلة مجسات و حساسات لتشعر..
تبلدت مشاعر ذي الروح و النفس وتوقدت منابر التواصل بالأحاسيس والشعور،
حلت الملصقات الباردة في مقاعد الكلمات الصادقة الدافئة ، وتمددت الكلمات المتطفلة في سواحل الاتصال بدلا من عناق الأعين و احتضان الشجن وجها لوجه.
تهاوت قلاع الحافظة القوية والقدرات الحسابية واللفظية لدى كثير من الناس مقابل تطبيقات الذكاء والذاكرة والقدرات الخليوية والالكترونية.
بل تلمست العلاقات المهمة كالبر و ميثاق الزواج و الأخوة والانتماء والصداقة وغيرها طريقها نحو مقابر الدفن والتواري وركب الخلاف موجات الحياة وسيطر الفساد الأخلاقي والاجتماعي و ابتذال النفس الإنسانية على مراسي القيم ومرافئ الخلق الحسن.
نلهو بأجهزتنا نحسبنا مسيطرين عليها، و تلهو بنا تحسبنا مأجورين لديها،
نزهو بأدوات نظننا نطوعها لأغراضنا والحقيقة أنها تسخرنا لغاياتها..
ألبسنا التقدم التقني حلل الكمال والتمجيد، وجردنا ذات التقدم من مزايا الإنسان و معايير تفرده وتميزه.
عصر الآلة الذكية التي يديرها إنسان غبي، آخر ملامح ذكائه كانت حين ابتكرها ثم ابتلعت تلك التقنية كوحش مسعور ثنايا تلك العبقرية وحولتها لمراتع ضعف و بؤر تخاذل و انهيار.
ولازال السباق قائم حتى لتقليل عدد البشر مقابل سيطرة الأداة و الآلة و التقنية، فالمصنع ذي المائتي عامل يقطفون رزقهم من ثماره ويشيعون الدفء حبا في نواتج صناعته، اكتفى بعشرين من البشر ومئات من آلات ذكية تزيد عدد العاطلين و الكسالى والفاسدين.
إذن و بعد كل هذا حين يبرق سؤال:
"الإنسان والتقنية.. أيهما طوع الآخر وسخره لشروط منظومته؟؟"
الإجابة تهطل من رباب هذا المقال و ديم سطوره.
لكن لن تيأس خيول بشريتي من أن تجمح في وجه التسلط التقني المكفهر، نحن من صنعنا التقنية ونحن من يجب أن يوظفها بما يفيد، ونحن الأقوى و الأذكى، فالتقنية ابتدعها البشر ، والإنسان أبدعه رب البشر، و لا مجال لمقارنة بين صنع عبد و صنع خالقه.
التعليقات 3
3 pings
طارق يسن الطاهر
25/06/2021 في 8:25 ص[3] رابط التعليق
مقال موفق دكتورة ، وطرح مميز، وفعلا الإنسان من صنع الله ، والتقنية من صنع الإنسان، وعلينا حسن استخدامها فيما ينفع ، فعلى الإنسان أن يمارس دوره في سطوة التقنية المكفهرة ، ولكن سيطرت التقنية وحلت الآلات محل البشر للأسف ، بارك الله فيك
(0)
(2)
حنان
17/08/2021 في 12:28 م[3] رابط التعليق
رائع يا دكتوره فكرا وصياغه وخوفي ان بعض البشر بستخدم التقنيه ضد السواد الاعم
(0)
(1)
شعاع الوطن
17/05/2023 في 4:24 م[3] رابط التعليق
مقال رائع ينم عن عقل مفكر وخيال خصب وتوظيف للافكار والحوادث في سياق احوال البشر وحياتهم وسط الزخم من التقدم التقني وبريق الحضارة .ويبقى الانسان هو الاذكى ان سخر كل الادوات لصالحه ليحصل على مزيد من العلم والرفاهية والسهولة والانجاز .
(0)
(0)