- ثقافتنا: من أيدي التجار، إلى أيدي العلماء، إلى أيدي الأغنياء البلهاء.
- نحن بحق أمام كارثة ثقافية، سيكون لها أثرها المدمر مستقبلا، إذ قد تمَّ تسليم المطابع بصورة غير مباشرة لأصحاب الأموال الذين يتوقون إلى الشهرة، وهم خواء من أي أدب، أو أثارة من علم.
يقول العلامة الأستاذ أحمد أمين في تقديمه لكتاب أخبار أبي تمام للصولي، متحدثا عن نشر الكتب القديمة نشرا علميا.
"وقد مر علينا زمان كان نشر الكتب فيه على أيدي تجار جهلة، لا يعنون في الموضوع إلا بجانبه التجاري السخيف، فيكفي أن تقع في أيديهم نسخة من كتاب يظنون رواجه، فسرعان ما يطبعونه في أيام، غير باحثين عن أخرى من هذا الكتاب تعين على تصحيحه، ولا عاهدين بطبعه إلى علماء ثقات، يتحرون الصحة في طبعه، فيخرج الكتاب محرفًا مشوهًا، إذا يفهم ناشره جملة حذفها، أو غير فيها وبدَّل؛ وقد يكون المخطئ في الفهم، المنحرف عن الصواب؛ ولذلك خرجت أكثر الكتب المطبوعة في مصر، محرفةً مصحَّفةً، مملوءةً بالأغلاط.
إن شئت فاقرأ في كتاب العقد الفريد، أو الحيوان للجاحظ، أو الأغاني طبعة بولاق، أو الساسي أو نحوها، فلا تكاد تقرأ سطرا من غير خطأِ أو تحريف يمل منه القارئ ويضيق به صدره.
فلما جاءت نهضتنا الحديثة رأيناها شملت هذا النوع العلمي، فارتقى النشر، كما ارتقى التأليف، ورأينا النشر يتحول شيئا فشيئا من يد التجار إلى يد العلماء، ورأينا الناشر الأمين، يعني بالكتاب الذي ينشره عنايته بالكتاب الذي يؤلفه، ورأينا العلماء يقدرون الناشر، كما يقدرون المؤلف. ومع هذا، فحركة النشر على هذا الوضع لا تزال بادئة، ونرجو أن تستمر في تقدمها باستمرار العالم العربي في نهضته".
انتهى حديث العلامة.
أقول: وكم هو مؤسف أن نشهد انتكاس هذه البادئة، إذ عاد النشر إلى التجار، وليته عاد إلى التجار فحسب، بل عاد النشر إلى أيدي سفهائنا، ممن يملكون دراهم تمكنهم من الطبع، فلم يعد هناك ناشر نزيه، يفخر بنشره فرحا بخدمة المتلقي والأوطان، واعتدادا بما يقدم من خدمة جليلة لبلاده، وللأمة عامة، يذكره فيها التاريخ افتخارا، إلا من رحم الله.
انفرط عقد الطباعة، وأضحى بأيدي سفهائنا، ممن ليس في همهم سوى أن يُسطَّر اسمه في سفر الخلود شاعرا، أو قاصا، أو راويا، أو صاحب مؤلف في أي العلوم كان.
بل أضحى من حق كل من له دراهم تمكنه من إرضاء أصحاب المطابع الجشعين الذين لا يدققون فيما يأتيهم من نتاج فكري، وإنما ينظرون بشَرَهٍ، وسيلان لعاب إلى ما بيد صاحب المؤلَّفِ هذا من دراهم، دون خوف من الله في المعرفة، ودون حياء من الناس.
فكم طالعنا من ترهات، أفسدت علينا نهاراتنا، طبعت، بمطابع كنا نعدها من أمهات المطابع العربية المحترمة! بل، ودُبِّجت في هذه الترهات المقالات نقدا، لهذا الكتاب مدحا، وذلك الديوان استحسانا، من أدباء كنا نقدرهم، ونحترمهم، ونبجلهم، وما ذلك المؤلَّف الذي مدحوه بالممدوح حقا، ولا المستحسن صدقا، إن حكَّمنا ذائقتنا، وصدقنا في نقدنا.
ترى إلى أين تسير بنا عجلة الطباعة؟! إنها في تسارع مهلك، داعية الناس إلى استسهال الكتابة، فلا المطابع هذي كلفت المؤلف بتصحيح مادته، ولا هي اجتهدت له في تعديل مائل كتابته، وتصحيح خطأ بياناته.
نحن بحق أمام كارثة ثقافية، سيكون لها أثرها المدمر مستقبلا، إذ قد تمَّ تسليم المطابع بصورة غير مباشرة، لأصحاب الأموال الذين يتوقون إلى الشهرة، وهم خواء من أي أدب، أو أثارة من علم.
والله المستعان.