لم أتفاجأ بتلكم الاستجابة السريعة من الباحثة والمؤرخة الفلسطينية الدكتورة نائلة الوعري في إهدائي كتابها (القدس عاصمة فلسطين السياسية والروحية: 1908-1948م) الذي طلبتُه منها، بسبب معرفتي التامة بطبيعة المقدسيين المعطاءة، وإيمانهم بقضيتهم وحرصهم على استنهاض الحس بها وتعميقها في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي.
سعدتُ جداً بهديتي الثمينة التي لامست سطورها شغاف القلب بعد أن استقرأتُ فيها حجم الإصرار لدى المقدسيين الذين تصدوا للدفاع عن قضيتهم، فأثْرُوا الذاكرة العربية بمخرجاتهم الفكرية المُلهمة التي اعتادوا أن يكشفوا من خلالها -بالمباحثة والمفاتشة- عن العمق الحضاري لهذه المدينة العريقة الممتدة في جذور التاريخ، حيث كانت حاضرة ومقصداً لمختلف الأمم نظراً لمكانتها الدينية والسياسية..
اطلعتُ على الإصدار الباذخ فكراً، الأنيق شكلاً، والذي جاء في 9 فصول انداحت -مع فهرس الأعلام- على 567 صفحة، وشكلت إثراء معرفياً للمهتمين.
الكتاب يتناول بالدراسة حزمة المقومات الحضارية والسياسية والدينية التي استندت إليها القدس وأهَّلتها لاحتلال الصدارة بين المدن الفلسطينية وتوليها دفة القيادة كمركز إداري متقدم وعاصمة سياسية ما بين (1908-1948م).
كما تنزع الدراسة نحو تحليل تلك البنى الأساسية التي أسهمت في رفع مكانة المدينة، إضافة الى إلقاء الضوء على تراثها الذي تمتد جذوره في أعماق التاريخ.
وقد تابعتْ الدراسة مسيرة مدينة القدس إبان الاحتلال البريطاني بعد رحيل العثمانيين عام 1917 ثم رحيل البريطانيين عام 1948م وبدء حروب الفلسطينيين مع العصابات الصهيونية (نكبة 48) التي انتهت بسيطرة تلك العصابات على شرق القدس.
تناول الفصل الأول من الكتاب بالتحليل المقدّرات الجغرافية التي انفردت بها هذه المدينة، بينما تناول الفصل الثاني تحصينات المدينة المادية: العسكرية والمدنية، والمعنوية المستمدة من قيمها الروحية.
أما الفصل الثالث فقد قدمت فيه الباحثة توصيفاً تحليلياً للنسيج العمراني لمدينة القدس التي كانت رائدة المدن الفلسطينية، إضافة إلى دائرة الخدمات المتقدمة فيها والتي كانت تديرها بلدية القدس منذ 1863م.
الفصل الرابع يمَّمت فيه الباحثة نحو تحليل النسيج السكاني باعتبار المدينة رائدة المواقع الفلسطينية في عدد السكان.
في الفصل الخامس تبرز تشكيلات المدينة الإدارية (العثمانية والبريطانية والأردنية) ودورها في دفع المكانة الريادية للمدينة، إضافة الى مجموعة القوى الرسمية وغير الرسمية التي مارست السيادة عليها: العثمانية، البريطانية، الأردنية، الفلسطينية، والدولية.
وتناولت الباحثة في الفصل السادس تحليل البنية الإدارية التي مارستها السيادة في مدينة القدس، ويقصد بها مستوى الإدارة التي حكمت المدينة وأسهمت في تنفيذ الأوامر والتعليمات العليا بشأن اتخاذها عاصمة سياسية، وكانت بمثابة حلقة وصل بين الحكومة المركزية في إسطنبول ولندن وعمان من جهة والشعب الفلسطيني والمستعمرات الصهيونية من جهة أخرى.
وقد ركز هذا الفصل على دور المتصرف العثماني وقيادة الجيش الرابع العثماني والحاكم العسكري البريطاني والمندوب السامي البريطاني والإدارة الأردنية للمدينة خلال نكبة 48 وما بعدها إلى أن أُبرمت الوحدة الاندماجية بين ضفتي نهر الأردن. ولم يغفل هذا الفصل دور الإدارة الفلسطينية في العهد العثماني في دفع المدينة نحو الريادة، ثم المجلس الإسلامي الأعلى برئاسة الحاج أمين الحسيني الذي تحول الى ما يشبه الحكومة الوطنية التي قادت النضال ضد المستعمر البريطاني والصهاينة.
وتعرض الباحثة في الفصل السابع الموقف الفلسطيني من تقدم المدينة وإجماعه على مكانتها ودوره في ريادتها والحفاظ على رمزيتها السياسية والدينية في مواجهة القوى الاستعمارية.
ثم تتناول في الفصل الثامن مسألة الاجماع العربي والإسلامي ودوره في دفع المدينة نحو الريادة من خلال التآزر معها وإغداقها بالأوقاف والتبرعات والهبات مع فتح القنصليات فيها.
الفصل التاسع خصصته الباحثة لمناقشة الموقف الدولي وعلاقته بالدولة العثمانية وحكومة الانتداب والمجلس الفلسطيني وإصرار الدول العظمى على إيجاد موطئ قدم لها في المدينة وهو ما أعطاها بُعداً عالمياً، حيث اُستُهدِفتْ المدينة عبر فتح الامتيازات وشراء الأراضي وإقامة المزارع والمقرات التجارية والقنصلية والمدارس والمشافي التبشيرية والبيوت والمساكن والمستوطنات وتدفُّق الحجاج والزوار والهجرات والبعثات العلمية والاثرية والدوائر الاستخبارية والتمثيل الدبلوماسي، ثم افتتاح مقرات للمنظمات الدولية كالصليب الأحمر وعصبة الأمم والأمم المتحدة ولجان التحقيق الدولية وفروع الشركات الكبرى، خاصة مع انتعاش حركة التجارة بوجود ميناءي حيفا وعكا.
وبعد.. تلكم قراءة سريعة في سِفرٍ أحسبه من الأسفار القيِّمة والاضافات المتميزة في المكتبة العربية، سيجد من يقرأه إجابات على كثير من الأسئلة الكبرى المتعلقة بأرض المعراج، وتاريخها وريادتها وقيمتها السياسية والروحية ولتبقى قضية القدس وقضية فلسطين محفورة في الذاكرة العربية.