يجمعني قروب متطوعين في التبرع بالدم على مستوى منطقة جازان ويضم نخبة مميزة من العاملين في بنوك الدم بمستشفيات المنطقة والمتطوعين والإعلاميين الذين يسعون جميعًا للمساهمة في مساعدة كل من يحتاج التبرع بالدم.
ذات يوم أرسلت منشورًا عن حالة مرضية بحاجة لعملية جراحية - ولادة قيصرية- ومضت قرابة الثلاث ساعات دون أن يتحرك أحد في القروب وربما اجتهد أحدهم أو بعضهم بالنشر والتواصل لتأمين الدم بالمستشفى المتواجدة فيه الحالة دون إشعارنا في القروب راغبًا في حسنات صدقة السر.
أحد الأعضاء البارزين وممن لهم علاقة عملية مباشرة ببنوك الدم استشاط غضبًا لعدم التفاعل ثم تواصل مشكورًا وتحرك لتأمين الدم المطلوب وأثار النقاش في القروب حول فاعلية المتواجدين وأدوارهم فتداخل البعض وطرحوا أسبابهم وتحدثوا عن أعذارهم المقبولة حينًا والغير مستصاغة حينًا آخر…. أغلب المداخلات لم ألتفت لها تحاشيًا للإثارة التي لا طائل منها وسعيًا لإنهاء الجدل والخروج بالمفيد غيرَ أن منشورًا واحدًا ضمن كل المنشورات أدهشني واستوقفني ودعاني لكتابة هذا المقال والأستشهاد بقصة واقعية حدثت أمامي بعد النقاش مباشرة حيث كتب أحدهم: " آمل أن نعمل الخير ونستشعر الحالة التي تعتري أحدنا عندما يساهم في تقديم العون والمساعدة لمريض أو ذوي مريض" …. هذا معنى كلامه أو مضمونه بغض النظر عن المفردات التي كتبها آنذاك لكنني تأملت كثيرًا في منشوره واسترجعت ذاكرتي مواقف عديدة عشتها عندما مرض والدي -رحمه الله- وحين مرضت والدتي -رحمها الله- وخلال العديد من المواقف التي تواجهني عندما أراجع بزوجتي أو أحد أبنائي المستشفيات وكيف يقف معي ويساندني العديد من الأشخاص دون قيدٍ أو شرط وحتى دون طلب وتذكرت كذلك العديد من الأشخاص المرتبطين مهنيًا بوظائف صحية أو الممارسين الصحيين وما يفعلوه في المجال التطوعي الصحي من مبادرات إنسانية تجعلك تراهم ملائكةً يمشون بيننا ينثرون الإحسان في الأرجاء.. وفي المقابل لهم زملاء مهنيين لكنهم بعيدون كل البعد عن التطوع والمبادرات الإنسانية.
غادرت ذلك النقاش حول التبرع والمبادرات الإنسانية في مساعدة المرضى وخرجت بسيارتي للحاق بالمتجر القريب من منزلي وإدراكه مفتوحًا قبل رفع أذان العصر ومررت في طريقي بمركز متخصص لغسيل مرضى الفشل الكلوي وقد كنت قبل سنوات حاضرًا مع الصحيفة في افتتاحه وتدشينه وكلما مررت به أشاهد مرضى الفشل وهم يخرجون منه بصحبة مرافقيهم وأعرف البعض ممن يرتادون هذا المركز تحت وطأة مرض الفشل الكلوي شافاهم الله وعافاهم مما أبتلاهم به… في تلك اللحظات خطرت بذهني كلمات ذاك العضو في قروب التبرع عن مساعدة المرضى وذويهم والشعور الإنساني العميق الذي يبعث في النفس البهجة عندما تقدم العطاءات لمن يحتاجك بطلبٍ أو بدون ولمحت امرأةً كبيرةً في السن تقف بجوار أخرى بلغت عتيًا من العمرِ تجلس في العربة وينتظران سيارتهما أو قريبهما وقد استظلا بظل واجهة المبنى لحين وصوله وواصلت السير بهدوء ناسيًا خروجي واستعجالي لإدراك المتجر وبينما كنت أتأمل بعض المرضى الآخرين بين داخلين وخارجين لهذا المركز الصحي لمحت اثنين من أقرب وأعز الأصدقاء والمقربين والجيران وهما يحملان والدهما الطاعن في السن من السيارة لإركابه العربة وقد أنهك جسده المرض وخارت قواه من شدة المعاناة وقد كان أحدهما فيما سبق أخبرني حين سؤالي له ذات مرة عن السبب في عدم رده على أتصالي بأنه عندما يكون برفقة شقيقه للذهاب بوالده لمركز الغسيل الكلوي يتفرغ تمامًا لأداء دوره ويترك الجوال نظرًا لما يتطلبه الموقف من جهدٍ مضاعف….. غالبتني العبرات وأعتصرني الألم من هول ما رأيت وجال بخاطري دعاء والدي ووالدتي المتكرر على مسامعنا بأن يكون موتهما خفيفًا ولا يكونان حملًا ثقيلًا على أحدنا وتمنيت أن أقضي العمر في كنفهما لكنها مشيئة الله وقدرته… في المقابل غبطت صديقا العمر على ماهما فيه من عناية وإحسان وبر بوالدهما وأسأل الله تعالى أن يحفظه لهما ويوفقهما في حياتهما.
رسالتي لمن غابت إنسانيته عن القريب قبل البعيد عليك أن تُدرك أن مجال العطاء والخير والإحسان واسع وفسيح ويستوعب كل عملٍ طيب وأي مبادرةٍ خيرية فلا تتعالى وتتجبر وتتكبر وتتعنت وتأنف عن تقديم المساعدة وبذل العطاء مهما كان حجمهما بالنسبة لك فالمحتاج يراه شيئًا عظيمًا…. فلتكن إنسانيتنا شعور وتفاعل وعمل ومبادرة لا مشاعر مكبوتة وشعارات متناقلة في وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة.