غالب الجيل الأول نفوسهم في مجانبة المعاصي والتحرز من الآثام، وصاحبوا ذلك خوفا آخر ألا يتقبل الله منهم حسناتهم، التي جهدوا في تمحيصها، فها هو الحسن البصري، رحمه الله، يخبر جيل التابعين عن أناس فيقول: لقيت أقواما كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم، ولقد رأيت أقواما من حسناتهم أشفق ألا تقبل من سيئاتكم.
ولعل الذين ألمح إليهم الحسن البصري من أولئك القوم المعنيون في استفهام عائشة رضي الله عنها حين قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة}: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون ...؟
قال: (لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألا يُقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات) رواه الترمذي
كانوا في خوف دائم من ربهم قطع عليهم كل لذة إلا لذة ذكره وطاعته ومناجاته، وحتى وهم يفعلون الطاعات كان الخوف يسيطر على قلوبهم وجوانحهم ألا يتقبل الله منهم.
ومن حبهم للطاعات قدموها على ما في هذه الحياة وسعدوا بها، فتراهم يحزنون إذا فاتهم من الطاعات شيء.
لما أحتضر عامر بن عبد قيس بكى، فقيل: ما يبكيك ...؟
قال: ما أبكي جزعا من الموت، ولا حرصا على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل.
ولما أحتضر عبدالرحمن بن الأسود بكى، فقيل له ...؟
فقال: أسفا على الصلاة والصوم، ولم يزل يتلو حتى مات.
أولئك رجال عاشوا مع الطاعة وكابدوها، وأرغموا النفس عليها حتى طاوعتهم، فصارت الطاعة عندهم ألذ من كل الشهوات، وأحب من كل المغريات، فكانت نعيمهم الذي به يتنعمون، وزادهم الذي به إلى الله يتقربون، ومع ذلك تبقى قلوبهم على وجل، فلم يكونوا كمن بعدهم أقاموا طاعات على عجل، وحسبوا أنهم بلغوا أعلى مراتب العمل.