قريحة الشاعر تحركها أحداث لها في النفس وقع يهيج المكامن فتنطلق منها أبيات تفيض ببعض مما يحسه، وطيب الفعال والمكارم تدفع بالشاعر إلى التفاعل معها، ونظم عقود لؤلؤ الكلام في وصفها، أو مدح فاعليها، وحفظ الجميل وإن كان في ذلك إغضاب لآخرين.
أذن الوليد بن عبد الملك يوماً للناس، فدخلوا عليه، وأذن للشعراء؛ فكان أول من بدر بين يديه عويف القوافي الفزاري فاستأذنه في الإنشاد، فقال: ما أبقيت لي بعد ما قلت لأخي بني زهرة...؟
قال: وما قلت له مع ما قلت لأمير المؤمنين...؟
قال: ألست الذي تقول:
يا طلح أنت أخو الندى وحليفه...
إن الندى من بعد طلحة ماتا
إن الفعال إليك أطلق رحله ...
فبحيث بت من المنازل باتا
ألست الذي تقول:
إذا ما جاء يومك يا ابن عوف...
فلا مطرت على الأرض السماء
تساقى الناس بعدك يا ابن عوف...
ذريع الموت ليس له شفاء
ألم تقم علينا الساعة يوم قامت عليه...؟
لا والله لا أسمع منك شيئا،
ولا أنفعك بنافعة أبداً،
أخرجوه عني.
فلما أخرج قال له القرشيون والشاميون: وما الذي أعطاك طلحة حين استخرج هذا منك...؟
قال: أما والله لقد أعطاني غيره أكثر من عطيته، ولكن لا والله ما أعطاني أحد قط أحلى في قلبي، ولا أبقى شكراً، ولا أجدر ألا أنساها من عطيته.
قالوا: وما أعطاك...؟
قال: قدمت المدينة ومعي بضيعة لي، ولا تبلغ عشرة دنانير، أريد أن أبتاع قعوداً من قعدان الصدقة، فإذا برجل في صحن السوق على طنفسة قد طرحت له، وإذا الناس حوله، وإذا بين يديه إبل؛ فظننت أنه عامل السوق، فسلمت عليه فأثبتني وجهلته؛ فقلت: رحمك الله؛ هل أنت معيني على قعود من هذه القعدان تبتاعه لي...؟
فقال: نعم، أو معك ثمنه...؟
فقلت: نعم.
فأهوى بيده إليّ فأعطيته بضيعتي؛ فرفع طنفسته وألقاها تحتها، ومكث طويلا، ثم قمت إليه فقلت: رحمك الله، انظر في حاجتي.
فقال: ما منعني منك إلا النسيان، أمعك حبل...؟
قلت: نعم.
قال: أفرجوا. فأفرجوا عنه حتى استقبل الإبل التي بين يديه، فقال: اقرن هذه وهذه وهذه، فما برحت حتى أمر لي بثلاثين بكرة، أدنى بكرة منها خير من بضاعتي...!
ثم رفع طنفسته فقال: وشأنك ببضاعتك فاستعن بها على من ترجع عليه.
فقلت: رحمك الله! أتدري ما تقول...؟
فما بقى أحد عنده إلا نهرني وشتمني.
ثم بعث معي نفراً فأطردوها حتى أطلعوها من رأس الثنية، فوالله لا أنساه ما دمت حياً أبداً.