من الظواهر الموجعة التي ظهرت في المجتمعات والعائلات،
أن كان الناس في أزمان مضت إذا سافر أحدهم ودّع أهله وأحبته، وودعوه راجين له الخير والابتهاج والسلامة، هذا بالرغم من قلة السفر ومحدودية عدد المسافرين.
اليوم تجمع المجموعات في وسائط التواصل بأنواعها العائلات والإخوان ويفاجأ المرء بأقرب الأقرباء في دولة أخرى بلا كلمة وداع بل ويخبئون ويخفون السر الحربي الهتلري العظيم خوفا من حسد الدول الفقيرة والنامية والمعادية !
ترى ماذا يسمى هذا؟؟
وعن أي ضمير أو قناعة يصدر؟؟
إن عاش المرء يخشى عين أخيه أو قريبه فماذا تبقى؟؟
كم هو محزن أن أظن بك خيرا فأشاطرك كل فرحة وتظن بي سوءا فتخفي عني كل شيء ظنا منك أن هذا من الكتمان المحبب، بل هو والله وتالله من سوء الظن بالأهل والإخوة ويسبب بعدا ونفورا وجرحا في الخاطر ينبع من حيرة التساؤل: إن لم أشارك أهلي وعزوتي ويشاركونني فمن أشارك بعد؟!
هل بلغ بنا الحال من التنمر والحذر والشك أن نخفي عن أقرب القربى كل شيء في حياتنا؟ فيضطرب أحدهم حين يُسأل عن حال فلان من العائلة في بعثته أو فلانة في سفرها أو خطبتها، وكم يؤلم التلعثم لإيجاد حجة واهية وكذبة مقنعة يٌحفظ بها ماء الوجه وهو يجيب بما لا يعرف.
أمر معيب وحال صعيب، بل وقد يحظر الأقرباء بعضهم بعضا خوفا منهم بينما المجرات الأخرى تطلع على أسرارهم وخصوصية بيوتهم ! وشغاف القلب تصرخ لمَ كل هذا؟.
سريةٌ وغموض لا تنبئ إلا بانعدام ثقة الكاتم عنك فيك وخوفه منك، أين هي ظلال الأخوّة ودفء القرابة إذن إذا تحولتَ عند شقيق أو قريب إلى حاسد أثيم !
هذه التصرفات إنما هي من أمراض القلوب، ومن يظن في أقرب الناس إليه سوءا بدون بينة أو داعٍ إنما يفتقر إلى الأمن النفسي والسلام الداخلي والتصالح مع الذات، ويرى الناس بعين طبعه، ويسقط عليهم نوائب تفكيره وضيق نفسه، أما من امتلأ قلبه خيرا وحسنَ ظن، وشبع من كل متعة وسفر وبهجة فيفرح بإعلان سفره لأهله ويتسامح من إخوته ويشاركهم حبوره في كل خطوة بل ويعلن لهم كل إنجاز.
تبقى بعض الطبائع لا يغيرها شيء، وبعضها تكتسب ممن نعاشر، فنتبدل نحو الأسوأ، فحرر ذاتك من وهم الشيطان الذي يريد إبعادك عن أحبتك، فالسفر يا سادة لم يعد مقصورا على صفوة الخلق إذ حتى الجراد يسافر عبر القارات، وسفركم ليس الظفر بجنة الخلد التي نراقبكم حسدا خوفا من حظوتكم بها، بل حتى الجنة تسع مليارات من الخلق وجعلها الله بفضله عرضها السموات والأرض، فكفانا ضيقا في نفوسنا وشحا في وجداننا، فلننقي هذا القلب قبل أن يبتلعنا سوادا وجحودا، فالعلاقات الطيبة ووشائج الأخوّة والقرابة تقوم على اليقين بأن القريب سترك إن عرّتك الظروف ووطنك إن طردتك البقاع، لا يكفي بين الإخوة والأهل أشكال العطاء العادية والمساعدات مادية كانت أم معنوية واللقاءات الباردة النمطية، بل يجب أن يشعر الفرد أن أهله دمٌ يجري في أوردته وهل يسافر الدم عن وريده دون أن يخبره؟!
تطبيقات التواصل كثرت والقلوب الطيبة النقية نضبت فسهل أن تواصل في جزء من ثانية لكن الإشكال هل تود التواصل بالفعل؟!.
وبالطبع من كان هذا قلبه وديدنه يتعجب أيما تعجب ممن يطرح ودّه وحبه بين أهله مشاركةً وزلفى، فهذا المسكين المطروح ببراءة لا يجد من يشاركه فرحا ولا بهجة ولا إنجازا، جدبٌ وجفاف يتعجب الرائي له هل ينبع من غيرة أم قلة معروف أم شُح نفس!!.
للأسف اختلت المعايير في المجتمعات وهذه الظواهر تؤدي لغرس الجفاء بين الأهل خاصة الإخوة وذرياتهم وترفع معايير الحذر ومؤشرات الاغتراب، فالقرابة ليست اسما يجمع أفراد العائلة بلقب واحد بل مودة ورحمة وثقة ولطف وشفافية، ويجهل الكثير أن كل هذا من تمام صلة الرحم والحفاظ على بر الوالدين وإرضائهم حتى وهم في قبورهم.
رحم الله لُحمة القربى وحضن شرنقة العائلة، ذُبحت بسكين التجافي والتباعد وسخف ترّهات الخلق رجالا ونساء.