عرضُ النص:
وهمان فيَّ تنازعا كأس الهُدى
وخواطِرٌ حارتْ فلم تمدُدْ يدا!
وخُطىً تُفَرِّقها الدروبُ وصورتي
ظلٌّ بذاكرةِ الفرارِ تمردا!
شمسي بأحداق المجاز لمحتها
وقصيدتي نجم يلوّحُ في المدى!
ألقيتُ في جُبِّ الفراغ بِمُهجتي
وقبستُ من خبرِ الوشايةِ مبتدا!
وجلستُ في غار القصيدة عابداً
متخيّلا وحياً وضيّعني الهدى!
خانت فصولُ المرسلاتِ مواسمي
ومضيتُ مُتّقدا أخاصِرُ موقدا!
حُلُمي بناشئة الغيابِ مُخضّبٌ
متوسّدٌ عزماً ونبضاً موصدا!
من سُكّرِ الأحلام أصنعُ كعكةً
والموتُ توتَتَهُ تُؤثثُ مرقَدا!
طرفي على جَفنِ الرقادِ مُسهَّدٌ
ورؤاهُ حالمةٌ تُحاذِرُ مرصَدا!
-------------------------
-القراءة النقدية:
(لا بدّ من متبقّ)؛هذا مثل شائع لدى البريطانيين ؛والمقصود أنه لابد من وجود بعض الأشياء التي تُترك ؛أو لم يتم الانتباه لها.
وفي موسم حصاد نبات الذرة بمنطقة جازان ؛هناك ما يسمى (الصَّريب)؛وهي لغة أحسبها فصيحة من (صرب) بمعنى جمع؛والصريب هو عملية قطف وجمع عذوق الذرة (السنابل) ؛وتتم على ثلاث مراحل ؛ الأولى :تسمى (الندب) وبها يتم قطف وجمع السنابل الكبيرة.
يليها (الصريب) حيث يتم قطف بقية السنابل الظاهرة للعيان.
والمرحلة الثالثة تسمى (القشيش)؛وهي عملية بحث وتفتيش دقيقة؛ لقطف ما تبقى من سنابل صغيرة مستترة بين حُزم الذرة...
من هذه المقدمة الملتوية ؛ أريد أن أقول إنّه على الرغم من أنَّ الأستاذ (المطهري) قد أحاط في نقده وقراءته وتحليله للنص بجميع الجوانب ؛ولم يترك لنا شيئاً لنقطفه ؛إلا أنني عملت بالمثل الانجليزي ؛وها أنا (أتقشش) في زوايا النص ؛لعلي أظفر ببعض السنابل المندسة بين صفوف الحروف والكلمات...
هذا النص كما يبدو خُلق بلا عنوان محدد؛وفق النسخة التي وجدتها في (معزوفات مخملية) ؛مقرونة بقراءة الأديب الناقد (المطهري)؛وقد أسماه (وهمان فيّ تنازعا) ..
-مطلع القصيدة:
وهمان فيَّ تنازعا كأسَ الهدى
وخواطرٌ حارتْ فلم تمدد يدا
وخطىً تفرّقها الدروبُ وصورتي
ظلٌّ بذاكرة الفرار تمرَّدا!
غالباً فإنَّ القارىء وهو يستعرض القصيدة ؛ويقلِّب حروفهاوكلماتها ؛ويعرضها على قائمة أغراض الشعر وموضوعاته ؛ تتكون لديه حقيقة مباشرة عن الغرض الشعري الذي تندرج تحته القصيدة؛لكن هذا النص يتأبى أن يخضع لأغراض الشعر المعروفة...!
ومثل هذا البناء الخاص الذي تتقدم فيه وحدة الصورة ؛وتكامل المعنى ؛يحمل في باطنه منطقه الخاص ؛وهدفه الخاص ؛ويُظهر نفسه كمجموعة رسومات على جدران الذات ؛كتلك الموجودة في كهوف المعابد ؛والمقابر الفرعونية (قبل اكتشاف الكتابة) ؛لتحكي لنا في مجموعها قصةً محسوسة قصيرة لحياةٍ طويلة بكامل أبعادها وزواياها.
لهذا كان دخول الشاعر قوياً ومتجلياً ؛تجلي القمر للرائي ؛والصورة مكتملة ؛والتفاصيل الداخلية مكشوفة للعيان شفافيةً وجمالاً...
هذا الدخول القوي والمباشر ؛يدل على ملكة أدبية راسخة ؛وتجربة شعرية ثرية ؛ونضج عقلي متمكن ؛وشخصية تتسم بالثقة بالنفس.
والمباشرة هنا ليست عيباً أسلوبياً؛ ولكنها ميزة تدل على وضوح الرؤية ؛وتكامل الصورة في المخيلة ؛وسيطرة العقل على مجريات التفكير والشعور.
والنص في مجمله محكومٌ عقلا ؛ً فكرةً ومضموناً؛والخيال فيه يأتي خادماً لجمال العرض ؛وحسن السبك ؛وروعة الصنعة الشعرية ؛فالشاعر عندما يقول :
(وهمان فيّ تنازعا كأس الهدى
وخواطرٌ حارت فلم تمدد يدا ..)
إنما ينطلق منطلقا إخباريا عقليا ؛
لا وصفيا ؛ولا وجدانيا ؛فهو لا يعبر عن معاناة ؛أو انفعالات ؛بقدر ما يتحدث عن تجربة حياتية فكرية مفعمة بالوهم ؛والشك ؛والتنازع ؛والصراع وانعدام اليقين.
وقد يقصد الشاعر (بالوهمين) اعتقادين ؛ أوظنَّين؛ أو طريقين؛وحالة الظن والوهم والشك ؛قد تعرض لكل عقل مفكر ؛كالصراع بين الهدى والضلال؛أو الخير والشر في الذات البشرية ؛أو بين كأس الهدى ؛والخواطر الحائرة حسب كلام الشاعر ، لكنَّ ثنائية الخير والشر واضحةٌ؛ لا تدخل في باب التوهم والظن ؛ وإنما مثل هذا التعقيد المفضي الى التوهم والشك ؛إنما يحصل في الصراع والتنازع ضمن مفهوم الخيرية حين تلتبس الرؤية ؛وتزدوج المعايير والقيم ؛ولعل تلك مقاصد الشاعر ..
… في ظل تعمد الشاعر عدم ضبط النص بالشكل لتحديد مسار القراءة للنص وتحديد معالمه اللفظيه فالصورة المباشرة التي تتبادر الى الذهن من الوهلة الأولى وفق السياق الطبيعي للكلام إنما تعبر عن وهمين في ذات الشاعر يتنازعان كأس الهدى ، وعلى هذا الفهم تكون ( كأس ) مفعولا به ورمزا دالّا على معتقدات الشاعر ، وفي هذه اللوحة تبقى حقيقة الوهمين وما هيتهما مجهولة ومتروكة لخيال القراء ..، لكن النص يخبرنا ايضا عن تنازع هذين الوهمين ، فاذا كان هناك وهمان في ذات واحدة يتنازعان كأسا واحدة ففي هذه الحالة تنتفي الثنائية وعلاقات الصراع والتضاد داخل الذات . وانما التنازع بمعنى التخاصم والتجاذب بما في ذلك من جدليَة حادة وتمزيق للذات واقلاق لاستقراها لا يحصل إلّا بين الأضداد ..، لهذا اجد أن هذه القراءة مضطربة وتفتقر الى الإبانة وتخل بقوة مضمون الفكرة والغرض الشعري .
والذي أراه أن النص يتحدث عن وهمين في داخل الشاعر يتنازعان ذاته ؛
هما ( كأس الهدى والخواطر الحائرة )؛ والتنازع هنا قد يأتي بمعنى الخصومة بما فيها من جدليّة حادة ؛وتمزيق للذات ؛أو بمعنى التجاذب السجالي ؛بما في ذلك من التذبذب والمسايرة ؛أو بمعنى التعاطي والتشارك ؛بما في ذلك من الشعور بالرضى والإنسجام الداخلي ؛وغلبة المعتاد والمألوف.
وعلى هذا الفهم تكون (كأس الهدى ) دالّة على المعتقد أو المعرفة المرتبطة بالهدى أو ( بالدين )؛بينما تدل الخواطر على معتقد مغاير ؛أو معرفة مختلفة ومتضادة مع المعرفة الأولى؛وكلاهما في محل الشك والتوهّم ..
فمعنى الوهم في قواميس اللغة : هو :مايقع في الخاطر من تصور وخيال ؛وهو الشك والاعتقاد الخاطىء الذي لا دليل عليه؛كما يأتي الوهم بمعنى الطريق ؛وفي كل الأحوال فنحن والشاعر أمام حالتين من الوهم (وهمان ) في ذات واحدة ؛يحكمها كما يخبرنا الشاعر صراعٌ مسالم حضاريّ ومنضبط ؛( فلم تمدد يدا ) .. إلّا أنَّ لها انعكاساتها المشتتة لمسيرة الشاعر ؛وثبات الصورة ؛وتفرق الخطوات في الدروب .
(وهمان فيّ تنازعا ): اعترافٌ يمثل زبدة القول ؛وخلاصة القصة ؛منهيا ً بذلك كل التفاصيل القديمة التي لم تكتب ؛والمرافعات التي لن تذكر ؛والتبريرات التي لا تجدي.
وكل ما تلا ذلك الاعتراف ؛ليس إلا القرائن والشواهد المؤكدة للحكمة الناصعة ؛والمعرفة العالية التي انتهى اليها الشاعر ؛والتي أنتجتْ هذا النص البديع...
من سُكر الأحلام أصنع كعكةً
والموت توتته تؤثث مرقدا!
طرفي على جفن الرقاد مسهد
ورؤاه حالمة تحاذر مرصدا
هكذا ختم الشاعر النص راسماً صورة حزائنيّة ممهورة بحكمة السنين ؛ومتنبئابنهاية المطاف لرحلة العمر ؛حين نستغرق في التفكير الحالم ؛ولذّة الأمنيات ؛ في حين يتربص بنا الأجل على طرق آمالنا العريضة....
لقد أعجبني كلامٌ للكاتبة الأمريكية (إيدا لوشان) تقول فيه : «في مرحلة الأربعين يعرف الإنسان عن نفسه ؛وعما يريده في الحياة ؛ أكثر مما عرفه طوال حياته؛وفي أشد لحظات الإحساس بالحزن والهزيمة يدرك أن ما يمرُّ به ليس إلا مزيداً من الوعي ؛ومزيداً من اكتشاف معنى أن تكون إنساناً ؛وتلك هي روعة أزمة منتصف العمر»
أحياناً - حينما يكون النصُّ شفافاً -يشغلك صاحب النص ؛بقدر ما يشغلك النص ؛إذ يتخيَّل لك أنَّه يطلُّ بظلاله ما بين أحرف وسطور الكلمات.
فهل يمكن القول إنَّ النص إنَّما يعبر عن حالة من حالات أزمة منتصف العمر؟
ربما هذا قد يكون عنواناً جميلاً آخر لهذا النص الجميل … والسلام …