ما رأينا شيئًا قريبا منّا لهذا الحدّ كقرب الموت ذراعاه ممتدة يخطفنا من الدنيا أم يريحنا منها هذا هو السؤال الذي نقف عندة السؤال الغامض الذي لا نعرف جوابه تتساقط كل الأشياء ويبقى السؤال معلّقًا ثابتًا كيف رحلوا وتركوا مقاعدهم خلفهم ملابسهم في الأرفف تحمل رائحتهم جدران حجراتهم عالقة بين ثناياها ذكرياتهم كيف رحلوا وتركوا لنا أبواب الحنين مفتوحة أصواتهم تطرق الآذان من حين لآخر وقلب لم يعد فيه سعة من الطاقة ليستوعب رحيلهم غادروا دون سابق إنذار دون أن نكمل لهم آخر القصة ونعانقهم آخر عناق رحلوا وتركوا وراءهم كل شيئ يخصهم تركونا لليل الموحش نبكي عليهم لكن ما قيمة هذه البكاء عيون تذرف الدمع ووجوه شابت من اللهفة متوهجة أكثر من وهج الظهيرة وكلما نظرنا في مكان يحمل ذكراهم تُلقي على النّفس أطلالًا محزنة تحمل أعباء الحياة على اشتداد قسوتها واسوداد صورتها ..
إن المجاهدة في تجاوز وخز الآلام لا ينجح فيه إلا القليلون يحتاجون لقوة من الله سبحانه وتعالى تربط على قلوبهم كما ربط الله على فؤاد أم موسى (لوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا) فالفاجعة سكّينٌ حادٌّه تُمزق الفؤاد إربًا إربًا والصّبر هبة لا يملكها الجميع والمرء منّا يُجيد فنّ المواساة ما دامت الفاجعة لم تصب عقر قلبه لا شكّ بأننا مؤمنون بقضاء الله وقدره ونعلم منذ أن خلقنا في هذه الدنيا أنها ليست دار الخلود وأن الموت هو الحقيقة الثابتة منذُ الأزل (واتّقُوا يَوْمًا ترجعُون فيهِ إلى الله ثم تُوَفَّى كلُّ نفسٍ ما كسَبَت وهُم لا يُظلمُون) لكن فكرة أن تكون بصحبة أحبابك الآن وبعد بضع دقائق قد يأخذهُم الموت منك شيئ مرعب ومخيف ..
نحن نخاف الفقد نهاب شعوره حين يأخذنا فردًا فردا شعور صعب وصفه حين تقف أمام القبور التي تُخفي عنا أشخاص كانوا ملاذًا لنا يومًا ما الموت لا يفرق بين أحدٍ بيننا لم يصطَفِ أحدًا على أحد لم يعرف صغيرًا أو كبيرًا لكن مع كل راحل عزيز علينا يرحل معه جزءٌ منّا ونبقى نحن مُعلقين ما بين السماء والأرض فملك الموت لا يسألنا قبل أن يقبض كل روح مُقربة لدينا أتتحملون غيابهم لو علمنا بموعد الرحلة الأخيرة لهم لرتبنا نحن أنفسنا للوداع والمشهد الأخير فنجلس معهم وقتًا أطول وسوف يكون الحديث الأخير مختلفًا نتأمل ملامحهم أكثر لحفظها جيدًا نعانقهم عناقًا أشد لكن للأسف يطرق الموت أبوابنا بلا استئذان ولا موعد سابق ..
الموت يأخذنا على حين غفلة ويتركنا لصدمة فيقف الكلام في الحلق والحديث يخرج على شكل همهمات ودعاء نعم لقد رحلوا وتركوا داخلنا أسئلة كثيرة تركونا لبقايا من الماضي، وصور صامتة وشوق لا يبرد رحلوا وتركوا فراغاً لا يملؤه غيرهم أدركنا الحقيقة ببطيء شديد بعد فوات الأوان لكن رغم رحيلهم ما زالوا هنا مرابطين في قلوبنا نُجيب على كل من يسأل عليهم رغم اشتياقنا إلى لقائهم وحديثهم وتمضي الساعة الواحدة بعد فقدهم دهرًا واللحظات الجميلة تنقصهم والجَمعات تفقد حضورهم نحن مثل أوراق الخريف مهما حاولت التمسّك بالغصن مصيرها السقوط وتخبرك ان موعد رحلتك قد اقترب والجميع راحل بأمر الله ..