من خلال قراءة انطباعية لنصه ( العيد والغياب )
العِيد والغِياب :
*كُـلُّ المَـوَاعيدِ خانَـتْـها المَواعيدُ*
*سِيَّانَ إنْ غِبْتَ أو وَافَيْتَ ياعيدُ*
*تَقَـطَّعَتْ بَينَنا الأَسْبابُ وافْتَرَقَتْ*
*دُرُوبُـنا، وَاسْـتَـوَتْ أيَّـامُنا السُّودُ*
*شَطَّتْ بِنا الدَّارُ، أَنْسَـتْنا ملامِحَنا*
*حَتَّى اغْترَبْنا وأَدْمى خَطْونَا الْبِيدُ*
*وَمَضَّـنا البُـعدُ وَجْـداً ما نُغَـالِـبُهُ*
*زَفِـيْـرُهُ الآه تَـكْـوِي والتّـناهِـيْـدُ*
*كيفَ افْترقْنا وَهَـمْسُ الحُبِّ يجمَعُنا*
*ومـا التَـقَيْـنا، وحَـبْـلُ الـودِّ مَـمْـدُودُ*
*ولَـوَّعَـتْـنا لَـيَـالٍ صَـفْـوُهـا كَـدَرٌ*
*أَدنَى تَـبَارِيْـحِـها هَـمٌّ وَتَـسْـهِيْدُ*
*تشِـيحُ عَـنَّا أمَـانِـيْ الحُـبِّ لَاهِـيَةً*
*وتصْطَفِينا على البَلْوى المَوَاجِيدُ*
*ياعِيدُ أيْـنَ التي كانَتْ إذا خَـطَـرَتْ*
*يَخْـتَـالُ بَـدرٌ، وتَـنـسَـابُ المَـوَاعِـيْدُ*
*تِلْكَ التي تَمْـنَـحُ الأعـيادَ بَهْـجَـتَها*
*أو رُبَّـمـا أَنَّـها كـانَـتْ هِـيَ الـعِـيْـدُ*
*مَـا بَـالُـها نَسِـيْتْ لَمْ تُهْـدِنا قَـمَـراً*
*في لَيْلَةِ العيدِ، هل يَحلُو لَنا عِيدُ*
——-
أصالة الشعر تكون فيما يمتلكه الشاعر من ثقافة وموهبة وعاطفة جياشة ومدارك عميقة تجعله يبعث روح حرفه مكتمل البناء والصورة.
وحينما يأتي النص إلى القارئ من جميع جوانب الإدراك ، الحس ، السمع ، البصر ، الوجدان ، العاطفة ، فإنه نص مكتمل الجوانب حقا.
وهذا ما لمسته في نص أديبنا محمد النعمي.
ولست هنا في نطاق التصنيف أو الفلسفة الشعرية ، أو الإشارة إلى ملحمة الشعر وتقسيماته المبثوثة في كتب فلاسفة الشعر كأرسطو وغيره.
وإنما طاب لي رسم انطباعي حول مجريات هذا النص البديع الذي صدفني وصدفته فرأيت أن أجاذبه شعوري متذوقا جماله وتقسيمات هالاته البديعة.
والشعر كما عرفه البارودي :
( لغة خيالية يتألق وميضها في سماوة الفكر فتنبعث أشعتها إلى صحيفة القلب فيفيض بلألأتها نوراً يتصل خيطه بأسلة اللسان فينبعث بألوان من الحكمة ينبلج بها الحالك).
ولقد سقاني هذا النص تلك اللغة التي ذكرها البارودي ، وذلك الإلهام ؛ لأرسم انطباعي حوله.
عنوان النص :
جاء العنوان بمفردتين متعاطفتين
( العيد والغياب) وهو ما يُشعر بالاقتران الأيدلوجي النفسي لدى الشاعر مع الحدث الحاصل ، حيث رسم جوانب النص عبر بوابة المفردتين ، وهي إشارة تحتاج تأملا دقيقا حيث المعنى الذي جمع كائنا يبث السعادة وآخر ينبعث منه لهب الاحتراق وهو الغياب.
وبالنظر في كنه المفردتين نجدهما كائنين لهما انطباع طبعيٌ في روح البشر ، وانطباع عتيق جدا يرجع إلى عُرف المفردتين ومعرفتهما عبر الزمن.
اختار الشاعر البحر البسيط ، وقافية الدال
ولايخفى ما يحمله حرف الدال من صفة جَهْورية انفجارية ، ولعل الشاعر اختار ذلك ؛ ليعبّر عن انفجار الشعور الناتج لديه عن مضص الغربة والبعد !
وظهر التناص الوزني والقافوي والمعنوي -أيضا- بين نص النعمي ( العيد والغياب)
وبين قصيدة المتنبي التي مطلعها :
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ ؟
وجاء نسق النص منسجما في جميع قوالبه:
الصدر
والعجز
والعروض
والضرب
والحشو أيضا
وهو ما يدل على قوة وعمق شاعرية شاعرنا النعمي وجودة قبضته على ناصية النص.
ولعل القارئ يجد ذلك في أغلب النص.
ولنأخذ مثلا قوله :
تقطعت بيننا الأسباب وافترقت
دروبنا واستوت أيامنا السود
فالقارئ يلحظ التقسيم الفريد ، والانسجام اللفظي والمعنوي ، وكأن الشاعر يعزف على آلة التقسيم الصوتي والغنائي، وتلك مهارة لايجيدها إلا المهرة.
ويلحظ القارئ أيضا :
التاء في أواخر الكلمات :
تقطعت
افترقت
استوت.
وكذلك:
( نا) المتكلمين
في كلمتي ( بيننا ، دروبنا )
وهو ما أضفى جرسا موسيقيا رائعا.
وحينما نغوص في أعماق نص شاعرنا ، سواء الألفاظ أو المعاني والدلالات والصور فإننا نجد الشاعر قد أحكم سبك قوالبه فالألفاظ منتقاة ودلالية فصيحة وواضحة الدلالة.
وكذلك الأفكار كلها تنصب في فكرة العنوان وهي ( واقع الغياب والبعد).
تلك الفكرة المرتسمة على جوى الشاعر خصوصا مع إطلالة العيد الذي هو روح البسمة والسعادة وملتقى الأحبة.
فحينما يأتي العيد دون لقيا من نحب فإن ذلك - ولا شك- هو انفجار الشعور أسى وألما.
والشاعر هنا مرتهن في كهف ذلك الغياب المحرق ،وتلك الغربة المرهقة.
وعنده كل المواعيد خانتها مواعيدها سواء حل العيد أو غاب ، فهو محروم من لقيا أحبته واجتماعهم.
يُقّرر الشاعر تلك الدلالة ليرسمها وينقشها في ذهن القارئ أو السامع معبّرا بالجمل الخبرية كما في الأبيات :
الأول والثاني والثالث والرابع.
أو الإنشائية المتمثلة في النداء أو الاستفهام
كما في الأبيات :
الخامس
والثامن والعاشر.
استخدم الشاعر مفردة العيد خمس مرات مفردة ومجموعة ونكرة ومعرفة وهو ما يدل على أن فكرة العيد أساسية ومستلهمة من روح هاجسه الشعري الذي ألقى عليه تلك الفكرة بدءا.
واستخدم - كذلك- مفردات دلالية لتدل على ذلك الغياب ومنها :
تقطعت.
افترقت.
أيامنا السود.
شطّت بنا.
اغتربنا.
إلخ.
وكلها تصب في معنى الغربة والغياب عن الدار والأحبة خصوصا في ظل إطلالة العيد.
ووظّف الشاعر اللغة الحركية للمفردات ليدل على المفارقة مثل:
وأدمى خطونا البيد.
وكذلك :
ومضّنا البعد.
ومثله :
وما التقينا.
وكذلك :
تشيح عنا.
وغير ذلك مما ورد في النص.
ولإثبات تلك الدلالة الغيابية يستخدم الشاعر الاستفهام التعجبي وذلك في قوله :
مابالها نسيت لم تهدنا قمرا ؟!
وكأن حاله كحال المتنبي حينما قال:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب.
واستخدم الشاعر- أيضا-
التصوير البياني والبديعي والكناية فجاءت وشيا وعِقْدا بهيّا !
لنأخذ مثلا
الطباق في قوله :
غبت ، وافيت.
صفو ، وكدر
وغير ذلك.
وكذلك الجناس الناقص في قوله:
المواعيد
و
المواجيد
واستخدم أسلوب المقابلة أيضا :
تقطعت بنا الأسباب.
وافترقت دروبنا.
شطّت بنا الدار.
واستخدم -كذلك- التضاد :
افترقنا
و
التقينا.
وظهر في نص الشاعر التجسيد ؛ ليرسم أحداث ذلك الغياب الذي مَرّ بكل أحاسيسه لظى ولهيبا.
فهو يستذكر قمره الغائب عنه حيث كان معه فيما مضى من أعياد.
بل يجعل ذلك القمر عيدَه حيث يقول:
تلك التي تمنح الأعياد بهجتها.
وحينما يكون الغياب من بلسم العيد فلا إحساس للعيد !
جاءت عاطفة الشاعر جياشة في وهج واحتراق تبعث الروح الفنية لغة وشعرا، حيث التعابير الحزينة التي صبها الشاعر؛ ليصور ذلك الغياب الجاثم على روحه، فأيامه سوداء
يغالب فيها الزفير والآه والهم والتعب والتناهيد.
هكذا جسّد لنا الشاعر حدث تلك الغربة، ولوعة ذلك الغياب وهو متلبس بالأسى وحُمّى الشوق ، وكأني به يتمثل قول قيس بن ذريح إذ قال:
ودِدتُ من الشَوقِ الذي بِيَ أَنَّني
أُعارُ جَناحَي طائرٍ فَأَطيرُ.ض