سارق الأرغفة :
سرت وأمي والجوعُ ... اطفال جارتنا يتناتشون اللحم َالمقدد، رائحة الخبز الساخن في المطعم المجاور تستفزُني ؛ نظرت أمي إلى وجهي الملتهب ؛وضعت فوق راسي حملاًثقيلا ًكي اتناسى نكزتني في ظهري كبهيم . وقالت بلهجة حازمة :سر من هنا. أطفال أثرياء يتراشقون بالمثلجات، ريثما تساوم أمهاتهم أمي على ساعة عمل إضافية؛ ألقيت حملي الثقيل أرضا ;ظنت أمي أنني التمس الراحة; منحتني ابتسامةحزينة ،غافلتها وهرعت للمخبزالمجاور ،سرقتُ رغيفا وفطيرتين. ؛ جلدني المارة ، ورشقني الاطفال بالحجارة ' ووصموني بسارق الأرغفة ، وطردت النساء الموسرات أمي.
القراءة :-
القصة القصيرة جدّا هي اختصار شديد لرواية طويلة جدّا ..
لقد أبدعت الكاتبة في اختصار ما يمكن أن يكون رواية طويلة في عدد قليل من الأسطر المشعّة بنور الفكرة وقوة المضمون والرسالة الإجتماعيّة والإنسانيّة بأبعادها المتعددة ..
فالقصة وهي توثّق حالة من حالات البؤس والفقر والعوز ، توثّق - أيضا - النقيض البذخي المضاد ، والظلم الاجتماعي المصاحب لها ، كما توثق الاستغلال المقيت من قبل البعض لمأساة وبؤس الآخرين ..
وهكذا يجد القارىء في هذه القصة عددا من الرسائل المتسمة بالألم ، المثيرة للأسف والغضب في آن ، وبدرجة كافية من الإبانة والوضوح ، حاملة في ثناياها صرخة مدويّة في ضمير المجتمع الغافل ..
من مزايا القصة القصيرة والقصيرة جدا اشراك خيال القارىء تحت وطأة كثافة الاحساس والشعور في استكمال الصورة المتخيلة للواقع الموضوعي العاقل الذي تعبر عنه القصّة ومن هذا المنطلق أجادت الكاتبة باستهلال قصتها بقولها على لسان طفلها البائس (سرت وأمي والجوع ..) هذه الثلاث الكلمات ونقاط الاستمرارية الدالة على كل الكلام المحذوف كانت كاملة المبنى والمعنى وكافية لرسم مشهد مفزع واسع النطاق ، من الأطفال الفقراء السائرين مع امهاتهم وجوعهم ، الشمامين لروائح الأكل المستفزّة لخيال الجائعين …، هذا المشهد يتجاوز الحيّز المكاني والزمني المحدود إلى فضاء مفتوح من الأزمنة والأماكن والشوارع والمدن والطرقات والقرى و أزقّة أحياء الخشب والصفيح على مدّ البسيطة ..
هذه الصورة ببعدها الإنسانيّ الكوكبي تتجاوز بسيرورتها الحدود الادارية والسياسية والدينية والعرقيّة للمجتمعات .. ولهذا فإن اختيار لفظ (سرت ) كان اختيارا ذكيّا وفطنا وموفقا ..
(فسرت) المشتق من (سار ) لا يعني المشي فحسب ولكن يعني ايضا السيرورة بما فيها من دلالة زمنيّة حينيّة ودلالة حركيّة متتالية و تراكميّة ..
سارق الأرغفة : عنوان لافت لواقع خافت ينتشر في المجتمعات انتشار الوباء المعضل ، والعنوان بشقيه : سارق ، بدلالته الجرمية المثيرة للإستفهام والإنكار ؟ وأرغفة بدلالتها المثيرة للتعجب والإندهاش ! يمنحنا شكلا من أشكال ( الكوميديا ) السوداء المفضية الى الألم والضحك في آن … ، فحينما كان يسير الطفل يتهادى بخواء بطنه بين الجموع يتشمم روائح الطعام ويراقب اقرانه يتناتشون اللحم ويتراشقون ببقايا المشروبات ، لم يكن له اسما يعرف به ولم يلقي له أحدا بالاً كأنْ لم يكن له وجودا بينهم ، وحينما سرق الرغيف أصبح له إسما ووجودا ككائن حيّ يجلده المارة ويرشقونه بالحجارة ، وكيف أن المجتمع يبالغ في وصف الواقعة وإطلاق التوصيفات السلبية جزافا دون التبصر في حقائق الأمور ، تلك صورة مأساوية من الظلم الإجتماعي تبعث على الأسى حين تكون خياراتك في العيش محدودة بين أن تعيش تحت هلكة الجوع أو تعيش تحت وطأة الإمتهان .
لا شك أنّ الجوع ليس السبب الأقوى للسرقة أو الصورة الأكثر سوداويّة في المشهد ، فالإهمال والمنع وانعدام العطاء وجفاف الخيريّة هي الأكثر سوادا ، وقد أجادت الكاتبة في إظهار هذه الصورة ولو بشكل ضمني ، ومما استوقفني جماليّا استخدام الكاتبة للفظ ( يتناتشون اللحم ) لمنحنا تصورا لمنظر حيوانيّ غابيّ متوحش … غير أن لفظ (المقدد ) أرى أنّه زائدا عن الحاجة أو في غير محلّه ، كذلك قولها ( …حملا ثقيلا …) فليس ثمة رابط في السياق يمهد لاستخدام هذا اللفظ ويشكل تلك الصورة ..
ختاما وضمن منطق مآلات النهاية المفتوحة للقصة يمكنني أن أضيف على لسانه : و أصبحت طريدا للعدالة .. هكذا تصبح المأساة مكتملة ببعدها الزمني السحيق ومنذ سارق الرغيف (جان فالجان ) في بؤساء فيكتور هوغو إلى (سارق الأرغفة) الذي لا إسم له لفاطمة الغامدي وحتّى حين .