ذاك الشعور الذي تحتاجه سائر المخلوقات -الأمن - تلك الشرنقة التي تحتوي شروط الاحتضان من دفء ورعاية وحنان ومعايير أخرى كثيرة توفر الراحة والطمأنينة وتولد السكون والسكينة وبدون هذه المعطيات تفشل حياة المخلوق حيواناً كان أو حشرة أو حتى نباتاً حيث يهرب من الخطر ويميل وينزع ولو بأوراقه نحو الشمس الدافئة واتجاه جذره نحو التربة المهيئة والعمق الآمن .
لا مخلوق على ظهر هذا الكوكب يزهد في الإحساس بالأمن والطمأنينة ، لهذا كان توفير هذه السلعة الغالية أمراً لا يقدر عليه سوى المولى عز وجل ويسخر لحدوثها من الأسباب ماهو أعلم بها .
وفي سورة سبأ سرد لحال أهل سبأ وقد منّ الله عليهم برغد العيش وكثرة الرزق وازدهار الحياة الاقتصادية والتجارية وكل ذلك لتوفر العنصر الخفي المتحكم -الأمن والأمان- ما كانوا ليتمتعوا بالنعم والجنات لو خيمت عليهم خيمة الخوف والرعب، فالوفرة من المال أو الرزق لا نفع فيهما لو صاحبهما انعدام للأمن والطمأنينة، والأمن مطلوب لا على مستوى المدن والمجتمعات والدول فحسب بل حتى على مستوى العمل والبيت والأسرة والمؤسسة الزوجية أيضأً ، كانوا ينعمون في سبأ بتجارة مزدهرة ورحلات آمنة بين اليمن والشام والطريق ميسر والقرى تكاد تكون متصلة وفي كل قرية سوق وزاد فلا يحتاجون للتزود بالمؤن من اليمن، يقيلون في قرية ويبيتون في أخرى وتمتد مدة الرحلة ليال وأياماً تحت سماء آمنة وظروف مطمئنة ولكن ...
يا لابن آدم كم يغلب عليه غباؤه حين يرفل في نعمة ويعتاد عليها حتى يصل إلى مرحلة البطر وعدم التقدير والجهل بمقدار العافية فدعوا ربهم أن يجعل بينهم وبين الشام بعداً ونصباً ليركبوا المخاطر ويتزودوا بالمؤن من بداية الانطلاق وقد استجاب لهم الله سريعاً فتغير ذاك الحال الرغيد الفريد إلى حال بائس موحش وصارت القرى متباعدة والطرق موحشة وصاروا عبراً لمن يعتبر وفقدوا أهم عنصر للسفر والتجارة والإقامة والتنقل فما عادوا "آمنين" .. !
وفي الواقع أن هذا الطلب من قِبلِهِم محير عجيب يذهب باللب، فما من عاقل يسأل الله أن يغير حاله للأسوأ أو أن يحدث له ما يضره ، ولكن هذا دليل على سفه الإنسان أحيانا وسوء ما يطلبه لنفسه ، وقد جاءت بعض محاولات التدبر والتأمل من أستاذ جامعي في الاقتصاد في جامعة الإسكندرية حيث صاغ نتيجة تدبره وتفكره فيما سماه " النظرة الاقتصادية الشرِهة" ، فأهل اليمن معروفون منذ القدم وإلى اليوم بتفوقهم في مجال التجارة والاقتصاد ولهذا - وكديدن كل عصر - ظهر عدد من التجار الشرهين الذين يريدون السيطرة على السوق بما يشبه الاحتكار وأن يتحكموا بالأسعار سواء في الشام أو اليمن حيث أن يسر الطريق وأمنه كان سبباً في التيسير على المشتري وجعل الأسعار والسلع في متناول الجميع وهذا ما جعل هؤلاء التجار يفكرون لزيادة ثرواتهم فتمنوا لو صار الطريق وعراً صعباً موحشاً حتى يستطيعوا أن يتخلصوا من منافسة صغار التجار ويفرضون - وهم الكبار الذين يستطيعون وحدهم التنقل رغم وعورة الطرق - الأسعار التي يريدونها وهكذا تسببوا في أذى المستهلك المسكين ذي الحال المتوسط وكساد حال صغار التجار ودمار حال المجتمع بأكمله ناهيك عما نجم عن عدم الأمن وانعدام التيسير .
هذه النظرة التأملية الاقتصادية قد تكون صحيحة فعلا كنوع من التوضيح والتخمين لسبب من أسباب ذلك السؤال العجيب الذي سألوه الله جل وعلا ..
وبتدبرنا في كل ما سبق علينا أن نستقي الدروس والعبر.
فحين يمن الله بالنعم على أحدهم، على المسلم الحصيف أن يحفظها ويشكر ربه لتزيد وأن لا يبطر وعلى المجتمع المدرك أن يقدر قيمة الرزق والأمن حتى لا يعاقب بالحرمان من النعمة وانقلاب الحال ، كما نلاحظ أن نعمة الأمن سواء في المجتمع الكبير أو الأسرة يمكن أن تسلب بكثرة الذنوب والخطايا والزهد في الشكر والحمد ، فاحمد الله دوما حفظاً للنعم ، وفي كل عصر وفي كل زمان يتكرر جشع أباطرة التجارة وحيتان الاقتصاد حيث الاحتكار والهيمنة واللعب بمدخرات المساكين من متوسطي الدخل بل وبمصير المجتمعات اقتصادياً وإنسانياً مما يسبب فساد الحال في البر والبحر .