يجادل الكثير من الكتاب الذين كتبوا عن الملك عبدالعزيز آل سعود (رحمه الله) عن الصفة البارزه والانجاز المميزالذي حققه للمملكه، فالبعض وصفه بأنه داعية إسلامية رسخ الحكم الإسلامي وقوانينه في هذه الدولة السعوديه الحديثه، فعم الأمن والسلام والإخاء في هذا الكيان الجديد المترامي الأطراف والمتعدد القبائل والأعراق والأجناس، والبعض الأخر قال أنه مصلح اجتماعي نقل الوطن وأبنائه من حياة بدائية إلى أن أصبحت هذه الدولة الفتية رمزاً للتقدم والرخاء والنماء، فوطٌن القبائل فيما يسمى (الهجر) ، وفتح المدارس وأنشئ المستشفيات، وفتح الطرق والمطارات والموانئ الخ .
ولكن كاتب هذا المقال ومن خلال دراسته المستفيضة والمتعمقة لشخصية هذا القائد التاريخي الفذ، وانجازاته الوطنيه، يصفه بأنه قائد استراتيجي عسكري محنك، ذو فكر عسكري ثاقب، فاهتم اهتماماً كبيراً بالقطاعات العسكريه والأمنيه ليسخرهما كأداة ووسيله لتحقيق هدفه السامي في توحيد المملكة العربية السعودية بطريقة واقعية ومتدرجه، وباسلوب عبقري لينصهر أبناء هذه الجزيرة العربيه في كيان واحد ويعيش أبناؤها أخوة أحباء ، بغض النظر عن خلفياتهم القبلية والمناطقية والمذهبية ، ولتكون هذه الوحدة الوطنيه الراسخه، قاعدة صلبه للنقدم والتطور ومنطلقاً لما نعيشه اليوم من استقرار وأمن ورخاء , وما ننعم به من تطور علمي وثقافي وأقتصادي .
مدخل تاريخي عبقري وابداعي لتوحيد المملكة العربيه السعوديه :
شكل الملك عبدالعزيز أول نواة لقوة عسكرية تقدر بـ (63) رجلاً من خيرة الرجال، ليقوم بتاريخ (15ديسمبر 1901م) بعملية عسكريه خاطفة يقتحم بها حصن حاكم مدينة الرياض أنذاك، ويطهر جيوب المقاومة داخل وخارج الحصن، وبعد أن استتب الأمن والاستقرارفي قصر المصمك، توسع الحكم ليشمل مدينة الرياض وما حولها، وبدأ الملك عبد العزيز بفكره الاستراتيجي يرسم في مخيلته وحده شامله لهذه الجزيرة العربية المترامية الأطراف، مستثمراً التماثل الجغرافي والبشري بين مناطق الجزيرة العربية ، فيوحدها كتلة جغرافية بعد كتله، ولبنة بعد لبنة، بعيداً عن الصراع الدائر بين الدول الاستعمارية في المنطقة وخصوصاً بريطانيا وفرنسا وتركيا ، بادئاً في منطقة نجد والتي كانت محاطة بصحراء قاحلة يصعب الوصول إليها من قبل الدول العظمى، بالإضافة لعدم وجود خيرات اقتصادية تسيل عليها لعاب هذه الدولة العظمى والتف حوله أهل الرياض، ثم بدأ بالتوسع جنوباً في منطقة الخرج والحوطة والقرى القريبة من الرياض.
بعد فتح الرياض والتفاف أواسط نجد حوله ركز في بداية التأسيس على بناء وتأسيس وتنظيم جيش من المحاربين (جيش الجهاد من حاضرة أهل نجد ، وجيش الأخوان من بادية الجزيرة العربية)، وكان اعتماده في تكوين هذا الجيش بعد الله على طاقة بشريه صارمه وقويه بالدرجة الأولى، وقيادات مبدعة تم تسليحهم بأسلحة خفيفة، ونظمهم في تنظيمات بسيطة، وعلمهم بعض فنون الحرب، ولم يتذرع اَنذاك بضعف الامكانيات الماليه والماديه، ولكنه استثمر الامكانات المتيسره والحاضره بكل ذكاء وفطنه في هيكلة وتنظيم وتسليح هؤلاء المقاتلين، فشكل أفواجاُ للقبائل لكل قبيلة عدد من الأفواج حسب حجم القبيلة وأماكن تواجدها , وعين شيخ القبيله المميز قائداً للفوج ، وبهذه الهيكلة تمكن من تعيين قيادات تاريخيه معروفه ومهابة لهذه الأفواج، أما المحاربين في هذه الأفواج فكل محارب يأتي براحلته (ذلوله ) وبندقيته ، وبهذه الطريقة الذكيه حُلت مشكلة تسليح وحركة وتحريك هؤلاء المحاربين ، وهذه الأفواج وقياداتها التاريخيه لا تزال باقية حتى يومنا هذا ، وتمكن الملك عبد العزيز بهذا الجيش المسلح بالعقيدة الإسلامية والأسلحة والمعدات العسكريه البسيطة والخفيفة من توحيد المدن والقبائل، مشكلاً دولة حديثة عرفت في عام (1932م) بإسم المملكة العربية السعودية.
.توحيد منطقة نجد ،بعد ضم منطقة الخرج والحريق والأفلاج ووادي الدواسر، توجه في عام (13/3/1904) , فدخل مدينة عنيزة في القصيم ثم بعدها بأشهر دخل بريدة، وأختتم ضم منطقة نجد في موقعة "الشنانه" والتي كسر فيها قوات ابن الرشيد وحلفائهم الأتراك، وبحلول عام 1905 أصبحت جميع هضبة نجد تحت حكم الملك عبد العزيز، وقد كان فكر الملك عبد العزيز الاستراتيجي في توحيد الجزيرة العربية واضحاً في ضم وتوحيد منطقة نجد خطوة خطوة، ومنطقة جغرافية تلو الأخرى وكما قال كاتب أمريكي "بدأ تقدم ابن سعود من يوم فتحه الرياض، وكانت حكمته المقترنة بالشجاعة تجعله يدرك الوقت الذي يجب أن يتقدم فيه، فلم يتعجله قبل أوانه" وكانت هذه الحكمة هي أسلوبه الاستراتيجي في توحيد المملكة جميعها، واستثماره للمعطى الجغرافي والبشري في خدمة مشروعه الوحدوي، ولا بأس لديه من الانتظار قليلاً، لأنه يعرف بفكره الاستراتيجي أن الانتظار والصبر والحذر والترقب سيأتي بالفرصة تلو الفرصة.
-توحيد منطقة الإحساء ،في عام (1913) بعد أن ثَبت الحكم في منطقة نجد، توجه بجيشه إلى منطقة الإحساء المجاورة لمنطقة نجد جغرافياً وحررها من الأتراك، ثم ضم القطيف وما جاورها، فأصبحت ما يعرف اليوم بالمنطقة الشرقية تحت حكمه.
-توحيد منطقة عسير. في عام (1921) وبعد أن ثبت حكمه في نجد والإحساء، ضم منطقة عسير تحت حكمه.
-توحيد منطقة الحجاز.،في عام (1925) تم توحيد منطقة الحجاز فأصبحت الأربعة مناطق الجغرافية الهامة للجزيرة العربية تحت حكم الملك عبد العزيز.
وهكذا وخلال قرابة ثلاثين عاماً (1902 ـ 1932) تمكن الملك عبد العزيز بفكره الاستراتيجي الثاقب، وإدراكه للتماثل الجغرافي والبشري للجزيرة العربية من توحيد الجزيرة العربية لبنة بعد الأخرى مستثمراً جغرافية هذه البلاد، وطاقة الصبر ودهاء الانتظار، حتى اكتمل بناء هذه الدولة الفتية وتأكد من سلامة البنيان ، وأمن جانب القوى الإقليمية والدولية بالتعامل والتفاعل معها بطريقة ذكية وبدون استعداء هذه الدول عليه، وأعلن في عام (1932) تأسيس "المملكة العربية السعودية".
أن استثمار الملك عبد العزيز للجغرافية الطبيعية والبشرية، والتقارب الطبيعي والجوار الجغرافي لمناطق المملكة العربية السعودية، والفكر الاستراتيجي في التعامل مع القوى الكبرى في المنطقة وخصوصاً بريطانيا وفرنسا، وعدم استعداء هذه الدول عليه، وخصوصاً بعد استعادته الإحساء والحجاز وعسير وأصبح وجهاً لوجه مع الدول العظمى لدروس عظيمة في براعة وعبقرية الفكر الاستراتيجي للملك عبد العزيز، وفن صياغة الخطط واتخاذ القرارات الإستراتيجية ، ولو أن قادة سوريا ومصر في عام 1962م , وكذلك قادة باكستان وبنغلاديش في عام 1972م ، اطلعوا على سيرة هذا القائد الاستراتيجي الملهم وأسلوبه في توحيد المملكة العربية السعودية على قاعدة التماثل والجوار الجغرافي بقاعدتيه الطبيعية والبشرية ، لما وقعوا في مشاكل وحدتهم، ولعرفوا أن تلاحم الأرض ووشائج الجوار الجغرافي الطبيعية والبشرية عاملان هامان لترسيخ وحدة الأمم، ودولة الأمارات العربية المتحدة الشقيقة أستغلت الجغرافيا الطبيعية والبشريه في وحدة ناجحة وصامده والحمد لله وتعد هذه الوحدة نموذجاً ومثلاً حديثاً للدول العربية والاسلاميه .
الصفة القياديه المميزه للملك عبد العزيز التي أهلته لتوحيد المملكة:
أجرت مجلة "لايف LIFE " الأمريكيه في عددها الصادر في 31 مايو 1943 م لقاءً تاريخياً مع الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن أل سعود رحمه الله ، وتصدرت صورته جالساً على كرسي غلاف المجلة وكان عنوان اللقاء : " ابن سعود "ملك السعوديه" ملك صنع مملكة " ، وقال رئيس تحرير المجلة (نويل بوش) أتها "معجزة التوحيد" حيث جمع بحكمته وابداعه شتات هذا الوطن ، وأسس دولة الشموخ فصهرجميع أبناء الجزيره العربيه في بوتقة تعاونية واحدة يسودها الود والولاء والانتماء ، وغرس حب المواطنه وركز على محبة الناس له في جميع أرجاء المملكة العربيه السعوديه الموحدة .
محبة الناس داخل المملكة وخارجها هي الصفة القياديه المميزه للملك عبد العزيز التي أهلته لتوحيد المملكة ، وتكاتف وتعاون أبناء المملكة العربية السعوديه ، وحتى الأجانب مثل النقيب شكسبير , وفليبي وغيرهم كثير، تفانوا في خدمة الملك عبد العزيز في مرحلة توحيد المملك وكان الجميع يجمع على حب هذا القائد الملهم .
ألقيت محاضرات عدة في مؤسسات عسكريه عن "فن القيادة" ، وبينت في هذه المحاضرات تعاريف وأساليب القيادة وذكرت أن للقيادة عشرات التعاريف ولكن التعريف الذي أظنه شاملاً ومختصراً هو:
“فن القيادة هي قدرة القائد على التأثير في المرؤوسين ، ليحصل على ثقتهم ، وطاعتهم ، وتعاونهم المخاص ومحبتهم، ليتمكن من خلالهم تحقيق أهداف المنظمه (سواء مؤسسه أو دوله) ، كنت أعاني كثيراً من أقناع الحاضرين بضرورة وأهمية محبة المرؤوسين لقائدهم ليتمكن القائد والمرؤوسين كفريق عمل واحد من تحقيق أهداف المنظمه، وكان الملك عبدالعزيز نموذجاً لمحبة المرؤوسين لقائدهم.
وختاما :
من خلال استعراض حياة وانجازات الملك عبدالعزيز يتضح أنه كان قائداً وطنياً مستقبلياً ، وعسكرياً فذاً يتمتع بفكر عسكري فطري عضده بالخبرة الميدانية، وأستثمر هذه القدرات القيادية والعسكريه لتوحيد المملكة العربية السعوديه وجمع شتاتها على قواعد وقيم إسلامية راسخة مستمدة من القرآن والسنة ، ورؤية أستراتيجيه بعيدة المدى لتطويرالمملكة بشرياً واقتصادياً وتقنياً ، ومحبة مرؤوسيه بل جميع أبناء هذا الوطن له ، ليسجل اسمه في التاريخ على أنه العبقري الذي وحد هذه الدوله لتتبوأ موقعاً متميزاً في جميع المحافل العربيه والاقليميه والدوليه .
رعى هذه الوحدة الوطنيه الراسخه من بعده أبناؤه البرره ملوك هذه المملكة فتمسكوا بالثوابت والمبادئ التي وضعها موحد هذا الوطن وعبقري التوحيد، وأبدعوا في التعامل مع المتغيرات والتحديات والظواهر السياسيه والاجتماعيهً والعسكريه والاقتصاديه المحليه والدولية والتي تفرضها المستجدات العالميه ، وخصوصاً الجانب الاستراتيجي على وجه التحديد ، الجانب الذي يهتم بإستخدام القوى الوطنيه الناعمة والخشنه ، بقيم إسلامية وعربيه واضحة وهي القيم الثابتة التى أسس عليها عبقري وموحد هذا الوطن الملك عبدالعزيز رحمه الله والذي نحتفل هذا الأيام بمرور( 89 ) عاماً إحتفالاً بتوحيد هذه الوطن العزيز ، وبعبقري هذا التوحيد الملك عبدالعزيز، ويضرب لنا الملك سلمان حفظه الله، وولي عهده الأمين اليوم المثل في المحافظه على وحدة هذ،ه الأمه وتنمية طاقتها البشريه والاقتصاديه والتقنيه لتبقى المملكة العربيه السعوديه مثالاً يقتدى في الأمن والاسنقرار والنماء بفضل الله أولاً، واللحمة الوطنيه التي تجمع القيادة الحكيمة مع القوات المسلحة السعوديه والمواطن السعودي المخلص والأمين.
حين سؤل الملك عبد العزيز من قبل مجلة (اللايف( life كيف تود أن توصف وتسجل سيرتك، ويتذكرك المواطن السعودي قال:
"لقد فتحت لهم أبواب الحياة الكريمة والسعيده ، وهياُت لهم طرق التقدم والازدهار, وركبنا جميعاً (سوياُ) قطار الحضارة والمدنيه".