دكت أول منازل الغبرة ، أرسلت تباشير الفرح للبشر للأشجار المثمرة ، للورود للازهار لردائم الفل ، احتملت أشجار السدر (كينا) والأرآك (كباثا) والإبرا (فوشلا) ، والغشوة والضبر والنبع (مصعا ومكيحا) ، السكب والدوش والوزاب والصيمران تموج بها الحقول ، ترسل عبيرا يزكم الأنوف من خلال جهاف عزب عاشق أو مقنع معلفية ، أو مظلة وصدرة واردة على البير ، الردائم في القرية مورقة مبخرة بنوى التمر ورفات البهش اليابس ، كعرائس متربعات ، تزين (جعبة الفل ) رؤوسها وجميع أغصانها ، كل رديمة تقول علي الزايد في الجنى ، جنى الليلة كثير لكن جنى الدارية أكثر .
البشر مستبشرون بالغبرة خيراً ، في عرفهم أنها أي الغبرة ( مناوش الخير) ، كذلك إذا ( أغبرت أمطرت) ، فعلاً هي كذلك وصدقت مقولتهم مناوش الخير ، ففي دكتها الأولى تتحمل الأشجار بالثمار بفعل حبوب اللقاح التي حملتها الغبرة ، تشتد عند استواء تلك الثمار وينعها ، تنوش الأشجار اي تهزها بقوة ، فتفرش العروج ويتساقط الفوشل ويستوي الكباث كدانات اخرجت للتو من محارها ، الأسود والأحمر القاني والشهالي ..
يهرع الجميع من مختلف الأعمار والجنس ، يلتقطون حبات الكين من تحت العروج ، هذا في حوكة وتلك في قطاعتها، صبي وصبية في مشرى صغير ، البعض يتجه صباحاً لحراج الأراك ، يجمعون في مقالدهم الكباث ، ثم يفرغون ماجمعوا من المقالد في زنابيل أكبر وأوسع مفروشة باغصان وورق الأراك ..
مع اشتداد الغبرة يتلطف الجو لإحتجاب الشمس ، يتجمع الجيران لدى بعضهم ظهراً على كف كين مماجمعوا وجبنة مردوم ، إذا لم يكن كينهم الذي جمعوا صاملا ، اشتروا بشرية حب مع ذاك المصيح الذي يجوب طرقات القرية على حماره ينادي ويقول :
الا كيييين الا كييين الا كين
الا كين امساحل ... يرد امقحم جاهل .. نظرا لمافيه من مواد غذائية مفيدة .
لم تقف متعة الغبرة عند هذا الحد ، تتواصل الجمعات والأنس النهاري ، فبعد جمع ( الفصي) وقشره وإخراج (القلابية) منه يطرح للضان والحمير .
تشير الساعة للثامنة والنصف بالتوقيت الغروبي ، أي الثانية والنصف بعد الظهر ، يدفر أهل الكباث ، الذين قضوا أكثر من نصف نهارهم معلقين في رؤوس حراج الراك ( الردف) ، يجمعون ثمرها كباثا الأسود طيبه ، يدفرون إلى القرية مشكلين بصياحهم سيمفونية تطرب أذان الصغار والعذارى :
الا ورد امكباث ورد ..
الا أسود وحالي ... الا ليته قبالي ...الا كبوا امشهالي.. إنا لله ياامسود .
وآخر يقول :
الا امكباث امناكش ... الا قمحة من امناهي ولا عشر من اللاش ... الا سيد روحي ياامناكش
وذلك من جمع في زنبيله أصناف الكباث كلها..
اما البقية ممن لايجيد ربط كلمات الاغاني والقصائد بكباثهم فيصيحون : الا كباث الا كباث الا كباث الا كباث .. وهم يجوبون طرقات القرية ، مكايلهم فناجين القهوة الطين .. ضربة بقرش أو قرشين أو شرية حب ..
وتستمر المقيلة مابين كين وقهوة ومكاماة - كماك؟ - فرد : عماك! ، وكباث ولبة فاتر وقهوة أيضا أو ثمانية ماء من جرة جديدة ، ابتل مقعدها (ندحا) ، فإذا أذن العصر تفرقوا وراحوا للصلاة ، حمل كل رب بيت زنبيل نفعته وقصد السوق ، يبتاع مؤونة العشاء ، في السوق صخب الباعة يصم الآذان ، مطرزا بصيحات بائعي الفل البلدي ، مشاقر نظمت في ( مشل) أو منثور في طاقية أو قطعة قماش مبلولة حتى لايفتش .
هكذا كان الأولون يستقبلوا الغبرة بفرح وابتهاج إذا اغبرت ، فإذا أمطرت زاد ابتهاجهم وسرورهم ، خرجوا من دورهم وملؤوا القبلان والطراريح بنفس الرتم السابق لايتذمرون ولا يسبون ولايسخطون ، لا انكلحنا ولا اندفنا ،، رغم ان البعض يضع علامات لمرافق بيوتهم ، التي تغطيها رمال الغبرة كالموافية ، مع ذلك هم سعداء بقدوم الغبرة ، ليقينهم أنها مرسلة لهم بخير .