قالوا عن الشعر ( أعذب الشعر أكذبُه)
وقالوا عنه إنّه ضرْبٌ من السّحر !
وقيل إنّ هناك وادٍ للشعراء يستلهمون الشعر منه ويتناجون عنده مع الشياطين
يُسمى ( وادي عبقر ) !
إنّي وكل شاعرٍ من البشرْ
شيطانهُ أنثى! وشيطاني ذكرْ
بل حتى أن فيلسوف اليونان ( أفلاطون)
حارب الشعراء وأخرجهم من جمهوريته الفاضلة متّهمًا إياهم بالغواية والإفساد!
وفي ذات السياق اتُّهم الشعراءُ في أدبنا العربي بالغواية وأنهم يأتون بالفاحش البذيء!
واستند من اتهمهم بذلك على قوله تعالى:
( والشعراء يتبعهم الغاوون ، ألم ترَ أنهم في كل وادٍ يهيمون ، وأنهم يقولون مالا يفعلون )
ولم يُكملوا الآيات التي تُفصّل الحكم وتُبيّن الحق وتُجلي اللَّبْس وتزيل الغموض ،
ولو أكملوا لوجدوا أنّ الله سبحانه وتعالى
يقول ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرًا وانتصروا من بعد ما ظُلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) ، ولو قرأ ذلك المنصفُ الفطنُ !!
تلك الآيات بتمامها وكمالها وحكيمِ ما جاءت به لما صرّحَ وجارَ بذلك الحكم ! ولايمكن لأحد أن يُنكرَ فضلَ الشعر وأهميته ومكانته عند العرب ، وكيف لا يكون ذلك وهو ديوان العرب وميثاق حروبهم وتاريخهم وصراعاتهم منذ الأزلْ ! ولا أدلّ على ذلك من ميميّة زهير بن أبي سلمى التي وثّق بها حرب وصُلح
( داحس والغبراء ) وغيرها كثير ، وكيف لا يكون ذا فضل ومكان وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم منه وسيلة لحرب قريش إذ يقول لحسان بن ثابت رضي الله عنه
( اهجهم وروحُ القدس معك ) وكان يقول ( لَوقْعُ اللِّسان أشدُّ عليهم من وقْع السِّنان ) وكان قد ردّ على عمر بن الخطاب إنكاره لعبدالله بن رواحة حين هجا المشركين وقال ( دعْهُ ياعمر! فإنه أشدُّ عليهم من نضْح النّبل ) وإن أوضح ردّ على من يُنكر قولَ الشعر ويجعل منه ذنْبًا وخطيئة هو استماع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم للشعر في مسجده بل وأنه استمع لشعر الغزل حين قدم عليه كعب بن زهير تائبا وأنشده لاميّته المشهورة
( بانت سعاد فقلبي اليوم متْبُول )
وألبسه بُردته تكريمًا له ، وكان يقول للخنساء رضي الله عنها حين تنشده الشعر وتتوقف ( هيهِ ياخناس ) أي زيدينا من شعرك ، وقال عن بيت لبيد بن ربيعة :
ألا كل شيء ما خلا اللهَ باطلُ
وكل نعيمٍ لا محالة زائلُ
أنّه أصدق بيت قالته العرب !
وكم أطرب الشعرُ أسماعنا ورقّق أرواحنا
وجلى الهموم والأحزان عن نفوسنا ! وكم سمعنا من المراثي ما خلّدت ذكر أصحابها ، ومن الحِكم ما شكّلت طريقًا وهدى للسائرين والحائرين ! وكم شهدنا معارك وشاهدنا أحداث وكأننا نراها رأي العين وهي لولا الشعر
ما نقلت إلينا ولولاه ما ثبتت في الأذهان
ولا أضحتْ رواية على كل لسان !
رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أنه قال: يا ابن عباس! ألا تنشدني
لشاعر الشعراء!؟ فقلت: يا أمير المؤمنين
ومن شاعر الشعراء؟ قال: زهير!
قلت: لم صيرته شاعر الشعراء؟
قال: ” لأنه لا يعاضِل بين الكلامين،
ولا يتتبع وحشي الكلام، ولا يمدح أحداً
بغير ما فيه” !
فنجد هنا اعتماد الخليفة عمر في معياره الفني على ثلاثة عناصر أساسية هي :
تجنُب التعقيدَ والتوعّر ، والابتعاد عن وحشي الكلام ، والالتزام بالصدق الفني، وإننا من خلال معايير الفاروق نقول: إن الشعر كغيره من العلوم والفنون في هذه الحياة
به من الخير ما يجعله نبراسًا وهدى
ومنهجًا للحق وأهله ، وبه من الشرّ
ما يجعله غوايةً وضلالًا وفسادًا !
والكيّس الفطن من استخدمه
بما يرضي ربه جلّ وعلا ،
وتمتّع ببيانه ورونقه ، وسحر بلاغته وروعته ! ونأى بنفسه عن مواطن الفحش والفجور وارتقى عن سفاسف الأمور .