لم تكن فريضة الصيام وليدة الدين الإسلامي، فهي عبادة لا يخلو منها معتقد أو دين مما سبق، سماوية كانت أو غير سماوية.
وحين شرع الله الصيام كان ذلك لغاية أعظم وأكبر من القسم المادي للصوم من الجوع والعطش، فحين نريد تعديل سلوكياتنا ونظامنا الاستهلاكي في حياتنا لن نتمكن من ذلك بمجرد التحكم في الإحساس بالجوع والعطش، فنحن كصائمين نحتاج إلى تعديل نهجنا الحياتي وكيفية التعايش مع المستجدات فيها، والجميل في الأمر أن علماء النفس يوصون بأن يكون الصيام تغيير للنهج المتبع في الحياة، فنتجاوز بذلك أنانية ذواتنا ونبدأ في التفكير في الآخرين.
إن الصيام بجميع صوره هو عبارة عن سلوك إنساني وثيق الصلة بروح الإنسان وتطلعها إلى ما بعد الحياة التي يعيشها، ففي الصيام اختبار عظيم لإرادة الإنسان، ومدى قدرته على الصبر والتحمل، دون رقيب عليه، إلا وازع روحي ينمو بداخله متزامناً مع الصيام، فيرتقي الإنسان بنفسه عن شهواته.
وفي الصيام يصيبنا العجب من أنفسنا، ففي سائر أيامنا تكون ساعة أجسامنا البيولوجية همنا الأول وشغلنا الشاغل، فنحرص على النوم مبكراً لنستيقظ مبكراً، ونهيءلأنفسنا كل ما يجعل نومنا
متواصل لا ينغصه شيء، ولكننا وبكل حب نحرص على السهر أحياناً لآداء ركعتين قبل الفجر.
وتزادد الغرابة، وما أجملها من غرابة ! فنحن نكره ما يشعرنا بالخوف، وننفر منه، ونحاول معالجة أنفسنا من فوبيا الكثير من الأشياء، ولكننا نسوقها سوقاً للخوف من الله وخشيته، فكل
خوف في الدنيا يضعفنا إلا الخوف من الله فإنه يقوينا ويمدنا بالثقة في أنفسنا.
عجبت لسيكولوجية أنفسنا! نكره الإحساس بالجوع والظمأ ، ونبغض من يعرضنا لها، ولكننا نتلذذ بها في رمضان، نتلذذ بها لأننا نستشعر ما في هذه الأحاسيس من الفائدة والأجر، والشعور بحال الآخرين حين يقهرهم الجوع والظمأ، فنبادر إلى مد يد العون لهم.
حين يأتي رمضان يكسر معظم ما ألفناه في الزمن والعادات والتقاليد والأفعال، فوقت السحور هو الوقت الذي كنا نغط فيه في نوم عميق، واكتفينا في طعامنا بإفطار وسحور، وفي المغرب يصيب الشوارع سكون في وقت تكون دائما مزدحمة بالناس يملؤها الضجيج والحركة.
إن رمضان وقت مستقطع من الزمن الرتيب الذي تعودنا عليه، فيتغير فيه كل شيء حتى نفوسنا فقد تغيرت عما كانت قبله، ونمضي وقتاً قبل أن نعود لسابق عهدنا، فعندما نحسن لأنفسنا في هذا الشهر تحسن عواقبنا، وتزداد مكاسبنا، وكل ما يتطلبه الأمر أن نسترجع كيف كان حالنا قبل رمضان ؟ وكيف أصبحنا؟ ولعلنا أصبحنا بخير.
وسبحانه جل من قائل:" "فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون" وهذا دليل على أصل الفرح والسرور، بمواسم الطاعة والخير، ورمضان خير هذه المواسم، جعلنا الله من الصائمين القائمين، وكتب لنا العتق من النار.
وسأختم كلامي ببعض الأبيات الجميلة لمصطفى صادق الرافعي والتي يعبر فيها عن إحساسه بحلول الشهر الكريم بقوله:
فديتك زائراً في كل عام
تحيا بالسلامة والسلامِ
وتُقْبِلُ كالغمام يفيض حيناً
ويبقى بعده أثرُ الغمامِ
وكم في الناس من كلفٍ مشوقٍ
إليك وكم شجيٍ مُستهامِ